شعار قسم مدونات

أسعار الكتب

blogs - books

مع دخول موسم معارض الكتاب العربية ذروته بانعقاد معرض القاهرة الدولي للكتاب (يناير – فبراير) من كل عام، ومعرض الرياض الدولي للكتاب (منتصف مارس) من كل عام؛ يتزايد الجدل حول أسعار الكتب الجديدة التي تصدر عن دور النشر العربية بين القراء الذين يشكون ارتفاعًا دائمًا غير مبرر -في تصورهم- لأسعار الكتب، ودور النشر التي تبرر ذلك الارتفاع المطرد في الأسعار دومًا بارتفاع تكاليف إنتاج الكتب.

ويتحمَّل الناشرون والمكتبات في مصر خاصة انتقادات أكبر لارتباط تكاليف إنتاج الكتاب دومًا بسعر الدولار لأن جميع خامات إنتاج الكتب من أوراق وأحبار وخلافه مستوردة من الخارج ومن الطبيعي -إذن- أن ترتفع أسعار الكتب نتيجة لتلك الارتفاعات الجنونية في سعر صرف الدولار أمام الجنيه المصري. ناهيك عن المكتبات التي تعتمد في معروضها أساسًا على الكتب العربية المستوردة من الخارج -بيروت بصفة كبيرة- وهي الكتب المُسعّرة بالدولار أيضًا.

فكرة "الإتاحة الكاملة" للمعرفة وهم ينتمي إلى أيديولوجيات النقد ما بعد الحداثي الساذجة كالنسوية والخضر والتنوع والتعددية.

والكتاب بطبعه سلعة ترفيهية بطيئة الدوران. ويبرز هنا انتهاك حقوق الملكية ونشر الكتب بصيغة "PDF" كحل منطقي بالنسبة لعموم القراء، لكنه حل مدمر للصناعة على المدى المتوسط البعيد؛ إذ يؤدي على خسائر ضخمة للناشرين تجبرهم على الإحجام عن مخاطرة نشر الكتب الضخمة أو الفكرية الثقيلة ذات الحركة البطيئة لأن هذا سيؤدي بالتبعية إلى خسارتهم.

تتغيَّا هذه التدوينة تسليط الضوء على هذه المشكلة من وجهة نظر ناشر واقع تحت ضغط نفس المشكلة ويرى أن لها مجموعة من الحلول بعيدًا عن الانتظار السلبي لدعم الدولة في مصر، التي هي تقريبًا أضخم سوق عربي للكتاب.

أولاً: النشر صناعة رأسمالية، بل هي من أوائل الصناعات الرأسمالية كما يؤكد بندكت أندرسن في عمله الهام: "الجماعات المتخيلة". وبما أنه صناعة فهو غير ممدوح أو مذموم في ذاته بل بقدر ما يسد من حاجة أو يمنع من عوز.

ثانيًا: مسألة "حقوق الملكية" مسألة في غاية الأهمية لتلك الصناعة، ومادام ليس لها بديل -إلى الآن على الأقل- يقلل من أضرارها ويحفظ استمرار الصناعة المهمة لعموم المجتمع؛ فاستمرارها وعدم انتهاكها مهم بقدر رغبتنا في الحفاظ على تلك الصناعة.

ثالثًا: الأصل في العلم، والكتب بالتبعية، أنه يُطلب ويُسعى إليه ولا يكون متاحًا لجميع الناس -خاصة وأن جميع الكتب الأساسية التي يحتاجها عموم الناس في حياتهم غالبًا ما تكون متوفرة بأسعار في متناول أكثرهم-.

ومسألة "إتاحة المعرفة" هي فكرة حديثة جدًا ناتجة عن التحول الرأسمالي في صناعة الكتب مع اختراع المطبعة، وحاجة المنتجين إلى توزيع منتجهم أوسع توزيع ممكن طلبًا للربح. وقد كان هذا سببًا في ظهور أنواع جديدة من الأدب كـ"البوب آرت" وأنواع جديدة من الفنون كالسينما.

رابعًا: فكرة "الإتاحة الكاملة" للمعرفة وهم ينتمي إلى أيديولوجيات النقد ما بعد الحداثي الساذجة كالنسوية والخضر والتنوع والتعددية. وهذه الفكرة الأخيرة تحديدًا مهيئة بشدة للاختراق الرأسمالي بمنتهى السهولة -عكس مبتغاها- لأنها تتيح للمنتجين الرأسمالييين التنويع اللانهائي في منتجاتهم بدعوى تلبية جميع الأذواق والحاجات -بينما هم يخلقونها على الحقيقة-. والمنتجون الرأسماليون في النهاية ليسوا منتخبين وليسوا موضع محاسبة. ولأنه -وهذا هو الأهم- ماداموا هم المنتجين المؤثرين فهم عمليًا المتحكمون في حدود هذا التنوع وتلك الإتاحة نفسها.

خامسًا: التنوع يفترض مجتمعًا متذررًا تمامًا؛ فردانية مطلقة نظريًا تتيح لكل فرد أن يكون له خياراته الشخصية شديدة التطرف -وهي على الحقيقة خيارات مصنعة رأسماليًا يجري تعميمها على كامل مسطح المجتمع عبر صناعة الإعلان- بحيث يفتح أبواب جميع الخيارات الممكنة وغير الممكنة أمام المصنِّعين، لكن في نفس الوقت لا ينتج ذلك أي مساحة من الحرية لأنها مجبرة من الأساس على الخضوع لخيارات المنتجين، ولأن "تايكونات" السوق الكبيرة يمكنها أن تتفاوض فيما بينها -بلا رقابة- وتحدد طبيعة "الذوق العام" عن طريق منتجاتها في إطار قدر محسوب من "التنافس" لا يضرها بقدر ما يدعمها.

سادسًا: الإتاحة الكاملة لا تنتج معرفة بقدر ما تلبِّي شبق التملُّك.

النشر كصناعة وسيطة ينبغي أن يعتمد على قاعدة وجود "وعاء سياسي" داعم لإنتاج المعرفة.

سابعًا: النشر صناعة وسيطة تلبِّي حاجة مجتمعية للمعرفة وهو يشترك في هذه السمة مع عدة صناعات أخرى كالصحافة والإعلام وغيرها، ولذا فهي وحدها لا تستطيع إنتاج شيء ذا بال؛ إذ هي مجرد حلقة وسيطة في عملية إنتاج وتداول المعرفة في المجتمع.

ورغم أنه حلقة وسيطة إلا إنه الحلقة الأهم في تصوير حقيقة عملية إنتاج وتداول المعرفة في المجتمع إذ يعتمد النشر على ما تنتجه قريحة أبناء مجتمع معين من أفكار وتصورات، وما ينقله عن ثقافات أخرى من أفكار وتصورات يرى أنها قد تساهم في حل مشاكل مجتمعه.

وينبني على ذلك أن النشر كصناعة وسيطة ينبغي أن يعتمد على قاعدة وجود "وعاء سياسي" داعم لإنتاج المعرفة. ولا أقصد بالوعاء السياسي مجرد دعم الدولة -بالضرورة- فإن هذا الدعم في حقيقته تحكم في إنتاج المعرفة، بل أقصد وجود قاعدة اجتماعية متماسكة راغبة في إنتاج وتداول المعرفة.

ثامنًا: تأسيس هذه القاعدة الاجتماعية المتماسكة مهمة أساسية لجمهور القراء، وهي القاعدة التي تخلق حاجات حقيقية في المعرفة ستجبر الناشرين على تلبيتها.

تاسعًا: وجود شكل من أشكال الدعم المجتمعي لصناعة النشر وجميع أشكال إنتاج المعرفة والتعلُّم أصبح ضرورة لا مفر من الاستجابة لها. والحدُّ الأدنى لذلك الدعم أن يُشكِّل مستهلكو منتج الصناعة الأساسيين وهم القراء جماعات ضغط تستفيد من المنتج الجيد وتدعمه، وتعمل على طرد المنتج السيء من السوق، أو تقليل أثره إن أمكن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.