شعار قسم مدونات

هجرة المستعمَرين إلى ديار المستعمِرين

blogs - refugee
التفاؤل جميل لكن حين يرتبط التفاؤل بالمستحيل فإن ذلك يصبح نوعا من التمنّي والكذب على النفس. مما يكذب به السوريون على أنفسهم أن سوريا ستعود كسابق عهدها بل ستصل إلى مصاف دول عظمى كألمانيا.

إذ يعمد البعض بنية سليمة لكن ساذجة إلى الاستشهاد بحال ألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية ومقارنتها بحالها اليوم وبجرة قلم يتم الإيحاء أن هذا هو ما سيحدث في سوريا. هكذا ببساطة! سنصبح قوة عالمية بعد الخراب والدليل مقارنة خرابنا بخراب ألمانيا. 
 

إن هذا التفكير السطحي أصبح مستشرياً في الجسد العربي إلى درجة قد يصبح اقتلاعه عملية شبه مستحيلة. فألمانيا التي خرجت محطمة بعد الحرب العالمية الثانية لم تصل إلى ما وصلت إليه بعد سنوات قليلة فقط ب"همة الشعب الألماني".

مع أن الدول الغربية احتلت العالم كله إلّا انَّ هذه الحركة الاحتلالية عقب الاكتشافات الجغرافية أدت إلى حركة أخرى لا تقل أهمية عن سابقتيها وهي الحركة العلمية الضخمة.

ليست فقط ألمانيا من خرج محطما من الحرب لكن بريطانيا وفرنسا كذلك خرجتا بدمار كبير وإن كان أقل من ألمانيا لكن سبب تعافي وارتقاء هذه الدول من جديد له أسبابه الموضوعية التي يمكن تلخيصها ونمذجتها بالنموذج الألماني الغربي اختصاراً.

لارتقاء ألمانيا "الغربية" أربعة أسباب:
١- همة الشعب الألماني في البناء.
٢-التطور الحضاري في ألمانيا: فألمانيا قبل الحرب كانت قد وصلت لمرحلة متقدمة من البناء الحضاري والاكتفاء الذاتي في الصناعات المدنية ومثال صغير على ذلك سيارة المرسيدس المصفحة موديل ٧٧٠ لعام ١٩٤٣ التي كان يركبها هتلر فضلاً عن الصناعات العسكرية، فألمانيا كانت قد أوشكت على صنع القنبلة الذرية لكن سقوط برلين أوقف مشروع السلاح النووي الألماني. وما تقدم السلاح النووي الأميركي إلا بسبب استقطاب العلماء الألمان وانتقالهم للعمل في المشروع النووي الأمريكي.

٣- مشروع مارشال: الذي دفعت بموجبه الولايات المتحدة مبلغ ١٣$ مليار لإعمار أوروبا وهو ما يقدر ب ١٢٠$ مليار بمقاييس اليوم كان نصيب ألمانيا الغربية منه أكثر من ١٠٪ من إجمالي المبلغ.
٤- نظام الحكم في ألمانيا بعد الحرب: فتميزت ألمانيا الغربية بنظام حكم ديموقراطي في مقابل النظام الاشتراكي الألماني الشرقي.

هذان المثالان يسمحان بمقارنة شبه علمية لأنهما يقارنان بين شعب واحد بظروف واحدة تحت نمطين مختلفين للحكم وكلنا يعلم اليوم كيف انتهى الحال في كل من المثالين.

لذلك فإن مقاربتنا لخراب سوريا وتشبيهه بخراب ألمانيا لا تصلح كمثال وخارطة طريق لسوريا رغم التشابه السطحي في حجم المصيبة؛ إلا أن مصيبة السوريين أكبر وأفدح لاعتبارات مختلفة عن ألمانيا نذكر منها ثلاثة أسباب.

١- فألمانيا لم تدخل في حرب أهلية بعد الحرب ذبح فيها الألمان بعضهم بل بقيت الروح الألمانية واحدة ترفرف فوق جدار برلين الفاصل فلما لاحت فرصة التوحيد بعد انهيار الشيوعية لم يستغرق الأمر أكثر من جلسة برلمانية هادئة لضم ألمانية الشرقية للغربية مع معرفة الغربيين الكاملة للتضحية التي سيقدمونها من جهدهم وأموالهم لإخوانهم الشرقيين.

٢- الحد الزماني: فالألمان لم يبقوا خاضعين لحدود الزمن الماضي بل وجهوا أنظارهم من الحاضر باتجاه المستقبل.

أما في سوريا فمازال هناك من يريد إعادة السوريين قرونا للوراء وصبغ ما يحدث هناك على أنه الملحمة الكبرى ولم يبق إلا ظهور المهدي المنتظر والمسيح الدجال وعودة المسيح عليه السلام.

هذه المقاربة الساذجة عند البعض للحرب في سوريا تنطلق من مقاربة لا ترى إلا أبيض وأسود دون أن تستطيع فهم التدرجات الرمادية بالغة التعقيد للتغيرات الجيوسياسية المحيطة بها، ومنها أن معتقدات معسكر الخير والشر لم تعد تنطلق من مسلمات دينية صرفة بل من فهم حركي اجتماعي لمفهوم الخير والشر. ففكرة أن العالم سينقسم إلى معسكرين أحدهما مسلم شرقي النهر والآخر غير مسلم غربيُّه تفترض أن كل من ليس مسلماً شرير وكل مسلم خيّر. لكن نظرة واحدة لمآل الربيع العربي أثبتت أن هذا التصنيف لا وجود له اليوم على أرض الواقع. فكلا المعسكرين معسكر المستبدين ومعسكر الذين يريدون التحرر من الاستبداد يحتويان على ملل ونحل مختلفة من مسلمين وغير مسلمين ما ينسف هذه النظرة من أساسها.

انعكست هذه النظرة على سلوك السوريين بشكل زَوَري أي الشك بكل من ليس من فريقي الضيق فانقسم بذلك السوريون إلى آلاف الفصائل والكتائب لا يثق أفرادها إلا بعددٍ لا يتجاوز في بعض الأحيان أصابع اليدين وكذلك أيضاً في مؤسسات العمل المدني والسياسي وهذا ما منع ظهور أي جسم يوحِّد السوريين تحت مظلة واحدة بل وصل الأمر في كثير من الأحيان إلى الاغتيال المادي والمعنوي لكثير من العاملين في الحقلين العسكري والمدني.

٣- الحد المكاني: وهو التصنيف الفقهي الديني القائم على تقسيم العالم الإسلامي لدار الإسلام ودار الحرب وهو تصنيف لواقع سياسي عسكري عمره أكثر من ١٢٠٠ عام.

الاحتماء خلف نصوص فقهية عمرها ألف سنة تقسم العالم إلى دار إسلام ودار حرب فقد أصبح من أعمال النعامة التي تدفن رأسها في الأرض للهروب من الواقع.

هذا التقسيم الجامد يعتمد على خريطة جغرافية ثنائية الأبعاد كالتي نعلقها اليوم على الجدران لا وجود لها في عالم الواقع الذي نعيشه اليوم والذي ابتدأ باكتشاف أمريكا ورأس الرجاء الصالح، هذان الاكتشافان اللذان مكَّنا للغربيين الخروج من سيطرة المسلمين على طرق الملاحة البرية وتمكنهم أي الغربيين فيما بعد من السيطرة على مواقع الملاحة العالمية البحرية التي طوت صفحة الكرة الأرضية ومكنت جيوش الغرب من الوصول إلى الهند والصين شرقا وإلى سواحل الأمريكيتين غربا، وهو الذي أدى إلى تراكم هائل للثروة لدى الغربيين بنهب الذهب ونقله من دول العالم الجديد التي أصبحت كلها مستعمرات للعالم الغربي بعد القضاء على الملايين من أهل البلاد الأصليين.

لكن التاريخ لم يقف هنا، فمع أن الدول الغربية احتلت العالم كله إلّا انَّ هذه الحركة الاحتلالية عقب الاكتشافات الجغرافية أدت إلى حركة أخرى لا تقل أهمية عن سابقتيها وهي الحركة العلمية الضخمة التي أدت إلى تطوير وسائل الانتقال بين المدن والبلدان فبعد تطور وسائل النقل البحرية حدث تطور في وسائل النقل البرية من قطارات مسيرة بالفحم الحجري ثم سيارات ثم ومع مطلع القرن العشرين اخترع الأَخَوان رايت في أوهايو أول طائرة وهو الأمر الذي أحدث خلال العقود التي تلت ذلك ثورة في عالم النقل.

هذه الثورة في وسائل المواصلات أدت إلى تغير شكل العالم جذريا مع استخدام الناس لهذه الوسائط وهو ما أدى تدريجيا خلال القرن العشرين إلى حركة الناس المستعمَرين وانتقالهم "هجرةً" من دولهم المستعمَرة إلى الدول المستعمِرة. وكانت بواكير ذلك هجرة الهنود إلى بريطانيا.

رافق ذلك أيضا موجات هجرة من بلاد الشام إلى أميركا الشمالية والجنوبية. ورغم محدودية أعداد المهاجرين العرب، إلا أنهم شكلوا ورسموا في المخيال العربي صورة جميلة للمهاجر الذي يعيش بعيدا عن أرضه لكنه مازال يحمل ذكرى وطن النجوم بين ثنايا قلبه كما عبّر عن ذلك شاعر المهجر إيليا أبو ماضي في قصيدته الرائعة "وطن النجوم".

ومن موجات الهجرة أيضا كانت موجات المهاجرين الأفارقة الى اوروبا، والمهاجرين المكسيكيين إلى الولايات المتحدة.  موجات المهاجرين هذه أدت مع الزمن إلى اختلاف كبير في ديموغرافية دول العالم الجديد وهو أمر لم تكن الحكومات المستعمِرة لتتخيل حدوثه حين قامت باستعمار تلك الدول فأدى ذلك إلى استعمارِ الدول المستعمِرة هجرةً من قِبَلِ مُستعمَريها حرباً من حيث أرادت هي استعمارَهم أصلاً.

يجب اعتماد هذا التصنيف الجديد للعالم الحديث الذي يعتمد على حركة الناس متعددة الألوان واللسان عبر القارات والحدود حين مقاربة حقوق الإنسان في العصر الحديث.

أما الاحتماء خلف نصوص فقهية عمرها ألف سنة تقسم العالم إلى دار إسلام ودار حرب فقد أصبح من أعمال النعامة التي تدفن رأسها في الأرض للهروب من الواقع.

وبسبب ما آل إليه حال أميركا عقب موجات الهجرة المتتابعة فإن رحى انتخابات الرئاسة فيها دارت حول معنى واحد وهو تعريف المهاجر. وما فوز دونالد ترامب بهذه الانتخابات إلا إرهاصات لمرحلة تالية تبدأ فيها أدوات التشريع في أميركا بإعادة صياغة هذا المعنى تدريجياً في محاولة منها لسحب البساط من تحت المهاجرين تمهيدا لنزع حقوقهم بل ربما إعادتهم إلى بلادهم الأصلية رغم أن هؤلاء ولدوا في أميركا أصلاً.

سيؤدي هذا العمل إلى تدافع هائل داخل المجتمعات الغربية بين المهاجرين الجدد والمهاجرين القدماء أولئك الذين اكتشفوا البلاد أولاً ثم استعمروا العالم ثانياً.

حل مشكلات اللاجئين إلى الغرب لا تكون بالتضييق عليهم في دار الهجرة ولكن بتمكينهم من العيش بكرامة في ديارهم الأصلية.

إن العرب اليوم يشكلون كتلة مهاجرة لا يُستهان بها بسبب أن بلادهم كانت من أكثر البلاد تعرضاً للاستعمار الغربي من العراق إلى المغرب وبالتالي هاجر أبناؤهم باتجاه العالم الغربي بحثا عن سبل الحياة الكريمة.

فإذا أضفنا إلى ذلك أن الحكومات التي حكمت العالم العربي بعد تحرره من الاستعمار كانت مرتبطة بشكل أو آخر بحكومات الدول المستعمِرة عبر مؤسسات الجيش العربي، وإذا أضفنا إلى ذلك أن ثورات الربيع العربي ضد الاستبداد قد تم وأدها من قبل مؤسسات الجيش تلك، استطعنا أن نفهم حركة الهجرة الهائلة باتجاه الغرب التي تلت عملية الوأد هذه.

إن حل مشكلات اللاجئين إلى الغرب لا تكون بالتضييق عليهم في دار الهجرة ولكن بتمكينهم من العيش بكرامة في ديارهم الأصلية. وما لم يفهم الغرب دوره المحوري في خلق مشكلة اللاجئين ومن ثَمَّ العمل بصدق وجدية على حلها فإن عدم الاستقرار في كلا الدارين شرقيها وغربيها سيكون هو الأرضية التي ستنبت كل الشرور في العالم.

إن الغرب اليوم مطالّبٌ بأن ينظر في المرآة ليرى التنوع البشري الهائل الذي يسكن أراضيه والذي يعكس الهجرات المتعاقبة باتجاهه، ثم بأن ينظر من النافذة ليرى الشعوب التي ترزح تحت وطأة الجيوش العميلة المرتبطة بدوائر القرار الغربي المركزية. هذا الغرب مطالب اليوم بكشف الصلات مع تلك الجيوش ثم قطعها بعد ذلك تماماً، الأمر الذي إن حدث سيكون أول خطوة على طريق الاستقرار العالمي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.