شعار قسم مدونات

مع سعد المجرد ظالما أو مظلوما!

blogs- سعد المجرد

الفنان هو الإنسان الذي يسمو بذائقة المتلقي، ويطرد بإبداعه وحشة الروح وقبح الواقع.. والمثقف هو إنسان قد يهب حياته دفاعا عن قيم العدل والإنسانية، ناهيك عن أن يدافع عنها. وقبالة السفارة الفرنسية بالعاصمة المغربية، تجمهر عشية الإثنين الماضي جمهور من مراهقين ومراهقات ونساء.. برفقتهم "فنانون" و"مثقفون" أكدّوا خلال وقفتهم عن تضامنهم لا مع قيم العدل السمحة، ولا مع المظلوم ضد الظالم؛ ولكن مع زميل لهم؛ متهم تنظر المحكمة الفرنسية في قضيته، ولم يصدر بعد حكم بإدانته أو تبرئته!

لقد تضامنوا معه ضد قيم العدالة، ولا يهم في نظرهم أن تبرئه المحكمة أو تدينه.. فهم "متأكدون من براءته" كما جاء على لسان أحد "إعلاميينا" الذين كنا نتوسم فيه قدرا من التعقل والمسؤولية اتجاه كل ما هو إنساني أخلاقي.
 

نحن معشر الحالمين بـ "القضاء الشامخ" والعدالة كلنا ثقة في القضاء الفرنسي، ليس لأن هذا القضاء هو قضاء لا يخطئ البتة، ولكن لأن القائمين عليه لا ينطقون بغير لغة القانون

قد يكون سعد المجرد بريئا بالفعل، وقد يكون مذنبا. وفي كلتا الحالتين فإن الإنسان الصادق النبيل نقي السريرة لا يرجو أكثر من أن يأخذ القانون مجراه العادل، حتى ينتصر الحق ويزهق الباطل، حتى وإن كان الباطل متمثلا في مواطن له من بلده، والحق متمثلا في امرأة أجنبية من بلد غير بلده ودين غير دينه ولون ليس كلون أبنائه. الكره والحب في القضايا العادلة، لا مكان لهما، ولا يجب أن يكون إذا ما أردنا الانتقال من مصاف الإنسان المتخلف الذي تحركه الأهواء والغرائز، إلى مصاف الإنسان الواعي الرصين الذي يعرف أن للحق طريقا ويأبى إلا أن يسلكه.
 

لا يعلم هؤلاء "الفنانون" و"المثقفون" المتضامنون مع سعد المجرد -أو غالبا هم يعلمون ولكنهم يتجاهلون- أن القضاء الفرنسي مهمته هو إحقاق العدل، حتى ولو تطلّب ذلك الزج بأعلى سلطة في الدولة بين جدران السجون. بينما في المغرب، وفي البلدان التي تنهل من ثدي التخلّف على شاكلته فإن الواحد حين يكون صاحب مال أو سلطة فإن قوانين البلاد برمّتها تخرّ وتسجد له، أما إن كان فنانا ذائع الصيت، ما أبقى ردفا في خارطة الناطقين بالعربية إلا وجعله يهتزّ؛ فإن القانون عندنا قد يُسبّح بحمده آناء الليل والنهار!
 

نحن معشر الحالمين بـ "القضاء الشامخ" والعدالة التي يخضع لها الصغير والكبير، كلنا ثقة في القضاء الفرنسي، ليس لأن هذا القضاء -قضاء الدولة التي استعمرتنا بكل أسف- هو قضاء لا يخطئ البتة، ولكن لأن القائمين عليه لا ينطقون بغير لغة القانون. وهكذا فإن كان بعض "مثقفينا" واثقين من براءة "المعلّم"، فإننا واثقون من شموخ القضاء الفرنسي في مقابل قضائنا الذي كثيرا ما خذلنا ولا يزال يفعل.

لكن الوجه الآخر لهذه الوقفة التضامنية، ولنقل إنه الوجه الأقبح، يتمثّل في أن الرابضين قبالة السفارة الفرنسية وهم يحملون شعارات التعاطف مع فنان متهم باغتصاب امرأة، هم فئة مثقفة تتمثل في فنانين وإعلاميين لا ينفكون يتبججون بدفاعهم المستميت عن قضايا المرأة. بالإضافة إلى نسوة ومراهقات وشابات لا يختلفن في شيء عن أولئك اللواتي يمكن أن تجدهن في وقفة تناهِض العنف ضد المرأة، أو تطالب بـ رفع سن الزواج، أو تدين القانون الذي يسمح بزواج المرأة من مغتصبها.
 

حين تنتصر الإيديولوجيا والتطرف ويغيب التفكير المنطقي، والحس الأخلاقي الذي يعامل البشر على قدم المساواة.. فإننا لا نستغربُ أن نغرقَ في التخلف والقهر لسنوات 

فما التضامن؟ ومتى يكون التضامن واجبا أخلاقيا إنسانيا؟ متى يكون واجبا وطنيا؟ هل يعي المواطن في البلدان التي تسير في طريق النمو منذ عقود دون أن تحقق أي تقدّم.. هل يعي هذا المواطن ماهية التضامن ومعناه؟ وإلا ما الذي يقصده هؤلاء بهذا التضامن الغريب وهذه الوقفة المشينة؟ هل يسعون، مثلا، إلى إجبار القضاء الفرنسي على إطلاق سراح المجرد حتى ولو ثبتت إدانته؟ أم ينتظرون أن يبتدع القانون الفرنسي مسطرة خاصة بالفنانين المدانين إكراما لجماهيرهم؟
 

إن التضامن مع فنان ثبُتت براءته ولكنه ظل، على الرغم من ذلك محتجزا في سجون الوطن أو خارجها لأَمرٌ محمود ينمّ عن حسّ إنساني وروح تضامنية تستحق وافر التقدير. أما التضامن مع إنسان -حتى ولو كان فنانا شهيرا- بنية عرقلة سير العدالة أو التأثير فيها؛ فأمر فيه الكثير من العبث، ومؤسِف أنه لا يصدر إلا عن عقلٍ رجعيّ كبر وترعرع على التمييز بين البشر: الغني /الفقير، ذو الجاه/المسكين، المشهور/المهمّش، ذو السلطة/ البسيط.. إلخ. فما بال هؤلاء كيف يحكمون؟!
 

عندما نعاين هذه الحالة من التخلف والفقر والبؤس الذي ترزح فيهم بلداننا، ونتأمل الازدواجية التي يعيشها المواطنون فيها، في تعاملهم مع مختلف القيم الإنسانية.. حيث تنتصر الإيديولوجيا والتطرف ويغيب التفكير المنطقي السليم، والحس الأخلاقي الذي يعامل البشر على قدم المساواة.. حين نتأملُّ كل هذا؛ فإننا لا نستغربُ أن نغرقَ في التخلف والقهر لسنوات لا حصر لها، فيضيقُ في أعيننا كلّ أفق للتقدم والرقي ولو بعد ألف عام!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.