شعار قسم مدونات

الخوف.. الثقافة السوداء

BLOG-الخوف
الخوف نحاول إخفاءه في عباءة واسعةٍ خوفا من أن نُتهمَ به وكأنّه عارٌ (رويترز)

لوهلةٍ أودّ لو أكسِر المرايا أهمّشُ الشكل الخارجيّ للإنسان وأتناسى تشريحه العضويّ والتَفِتُ صوبَ النَفْس. أنْ أختَرِعَ مجهراً يَضَعُ مشاعِرنا على صفائحَ رقيقةٍ ويُظهرُ تفاصيلها الدقيقة كيفَ تنفَذُ من دواخلنا وإليها ماذا تَفعلُ فينا وكيفَ نعبّر عن ماهيّتها…

وهذه المشاعر المترادفةُ والمتناقضةُ كثيرةٌ لا حصر لها كالجوعِ والعطشِ والغضبِ والقلقِ والسعادةِ والابتهاج والخوف.. هل سبقَ أن وقفنا وجها لوجه أمام تاريخ الخوف لدينا؟..نظرنا في عينيه مباشرةً وقرأنا أسبابَه ومراحل تكوينِه فينا؟..هل سبقَ وأنْ حاولنا تفكيكَ ألغام المخاوف المنتشرة في نواحي حياتنا المختلفةِ..

الخوفِ المُقترن بطفولةِ المرءِ  يأتي عبرَ النمطِ الخاطئ للتربيّة، فالأهل عموماً يحاولونَ تسليطَ الخوفِ على أطفالهم عبرَ خلقِ وحوشٍ وهميّةٍ"

إنني أتحدثُ عن الخوف الذي يمكنُ أن نعرّفه ببساطةِ على أنّه شعور غريزيّ يسلكُ طريقاً وعرةُ من اللاوعي حتى حدود الجسد..وأتحدث عن الخوف الذي نحاول مراراً إخفاءه في عباءة واسعةٍ فضفاضة خوفا من أن نُتهمَ به كأنّه عارٌ..يحظّ من قيمتنا الحقيقية في محيطنا..

وأتحدث عن الخوفِ ذاته الذي أفلح علماءٌ كثر من قبل في قراءةِ نِسَبِه عبر هرمون الأدرينالين ونبضات القلب المتزايدة والتعرّق وحرارة الجسد..
إنّني أتحدثُ عن الخوفِ الفطريّ الذي يولَدُ كجزءٍ من إنسانيّتنا كالخوفِ من المرتفعاتِ أو الماءِ العميقةِ وقد يتغلب الفردُ عليها إذا ما وجدَ النمط الصحيح لذلك كتشجيعه والعناية به وتبسيط الامور امامه وهذا واجب العائلة والمدرسة بالتأكيد.

وأتحدثُ كذلك عن الخوفِ المكتسبّ الذي تحدّثهُ ظروفُ حياتنا بشكلٍ متواصلٍ ..كالخوفِ من شخص ما أو الخوف من الحرب مثلا. وإذا ما أخذنا نظرةً سريعةً إلى طفولةِ الخوفِ المُقترنةِ بطفولةِ المرءِ فإنّ الكثيرَ منها يأتي عبرَ النمطِ الخاطئ للتربيّة، فالأهل عموماً يحاولونَ تسليطَ الخوفِ على أطفالهم عبرَ خلقِ وحوشٍ وهميّةٍ من الظلالِ في العتمة أو إرهابهم بأسماءِها المختلفةِ كالغول وال (عو).. مدعينَ أنّها وسائلُ ناجعةُ لمنعِ الطفل من الاقتراب من ما يؤذيه كالماءِ الساخنِ أو الأجهزة الكهربائيّة أو غيرها..

وإنْ كانَ الهدفُ نبيلاً فالسبيلُ إليه ليسَ كذلك لأنّ النفسَ لا تستطيعُ بسهولةٍ التخلصَ من رهبةِ العتمةِ أو شكل الوحش المتخيّلِ، ليعاني الطفلُ منها لفترة معينة قد يتجاوزها لكنها ستظل نقطة سوداء في حياته..

واللافتُ للنظر أنهم في الوقتِ نفسه يردعونَ الطفلَ عن البكاءِ إذا ما شكى يوماً من خوفِ يعتريه دون وقوف حقيقيّ على معالجةِ هذا الخوف والأخذ بيدِ الطفلِ لتجاوزهِ وهذا التناقضُ هو موضعُ الألم ..

ولا يتوقف الأهل عند الردع عن أمور مؤذيّة فحسب لكنّهم يواصلونَ بالعادةِ زرع بذور الخوف لذى الطفل حتى مراهقته بمنعه عن الأشخاصِ الغرباءِ أو التصرفاتِ التي لا تُناسبُ المجتمع أو الثقافاتِ الأخرى أو حتى الدياناتِ الأخرى دونَ توضيحٍ حقيقيّ لأسبابِ هذا المنع رغم صحتّه أحياناً ولكنْ عبرَ تصوير هذه الأمور على أنّها ستهدمُ حياته بشكل مطلقٍ وبأنّ خوفه هو النجاة.

ذا الخوف قد يظلُّ بذرةَ فتحدُّ أخطارهُ وتتقلص لكنّه في شريحةٍ معلومةٍ من المجتمعِ تتمادى وتكبرُ وهنا تقعُ المعضِلةُ، الطفلُ سيغدو مراهقاً وسيبدأُ في مواجهةِ الأمور بمفردهِ في محيطه المدرسيّ والاجتماعيّ، وجدُ نفسَهُ مُحاصراً في قالبٍ جامدٍ وكلُ مخاوفهِ تظهرُ آلامه عندَ أيّ خطوةٍ جديدةٍ قد يقبلُ عليها.

هل يستطيعُ الفردَ كسرَ مخاوفه المتعددة؟ وتغيير شكل حياتِه من الداخلِ بأن يتصالح مع الخوف ويحرر نفسه منه"

لكنّ عاملاً آخرا سيتدخل هنا ويقلبُ الأمر على رأسه كليّا وهو أقرانه الذين سيجدون من مخاوفه مصدر سخرية ليصير تحت سياطِ انتقاداتهم، فهو من ناحية لا يستطيع التغلب على مخاوفه والظهور بمظهر القويّ وفي الوقتِ نفسه لا يستطيعُ المجاهرةَ بخوفهِ على أنّه سيضعفُ من حظوظه بين أقرانه
فيصيرُ ضحيّة خجلٍ متواصل وهذا التتالي هو جوهر سوداويّة الخوف.

وأرى أنّ عدم الاتزان هذا يخلق حالة من الكبت والعصبية لدى الفرد، وقد يجعله منطويا في بعض المحطات من حياته أو يشعر بالنقص أمام غيره فيحاول جاهدا الانفراد بنفسه أو في أحس الاحوال الظهور بمظهر مزيف ودفن مخاوفه مؤقتا.. ولاحقاً سيساهم هذا الخوف بالحدّ من توّسعِ ثقافة المرء’ وتقبلّه للآخر فيخلقُ بيئةً متشنجةً شبيهة بالتي نعيشها في وقتنا هذا.

وهنا يأتي السؤال الأكبر في هذه النقطةِ العصيّة، هل يستطيعُ الفردَ كسرَ مخاوفه المتعددة؟ وتغيير شكل حياتِه من الداخلِ بأن يتصالح مع الخوف ويحرر نفسه من خطر انفجار موشك؟.. إما أن يمرّ الإنسانُ من هنا سالماً معافى، فيكون قادراً على مواجهةِ الخوفِ بمعارك مختلفةٍ دونَ أن ينكسر كالخوف من مستقبله أو حياته الزوجية.

أو المجهول الذي سيأتي وحتى خوفه من الحروب الدائرة في محيطه والتعامل مع الأمور بعقلانيّة لا تخلو من الحيطة والحذر لكنها لا تمس التنازل للخوف والوقوع في شركِه. أو أنْ يظلَّ أسيرَ المخاوفِ الصغيرةِ لتصيرَ حياته جحيما حقيقياً فأقلُّ تسارعٍ في نبضات قلبه قادرٌ على إشعاره بأنّه قاب قوسين أو أدنى من الحتف.

إنّ الكثافةَ الحقيقية لسوداويّة الخوفِ تكمُن في التخبّط الذي يجعلنا مختلفينَ تماماً على جانبيَ ذاتنا..
في داخلنا خوفٌ حقيقيٌ وفي الخارجِ صلابةٌ زائفةٌ وما بينهما ينكسرُ الإنسان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.