شعار قسم مدونات

في الفصل بين الثقافة والسخافة

A view of the opening ceremony of the 27th Carthage Film Festival, in Tunis, Tunisia, October 28, 2016. Picture taken October 28, 2016. REUTERS/Zoubeir Souissi
اُختتمت أيام قرطاج السينمائية وكان حصادها أن كلفت دولة -يقال أنها على شفا حفرة من الإفلاس- ملايين الدينارات.. مضت تلك الأيام سريعة رغم تكلفتها الثقيلة على جيب المواطن الذي يستعد لسنة ستكون الأصعب منذ سنة 2011 حسب ما يبشر مشروع قانون المالية لسنة 2017، فباب الانتدابات أغلق بإحكام في وجه العاطلين ولا مجال لفتحه من جديد في السنوات القادمة، والضرائب القاسية سيحتكر دفعها -كالعادة- المواطن الفقير في غياب نقابة أو هيئة تصد عنه جور الجباية، على عكس بعض القطاعات الميسورة التي يتجند أبناؤها لتحدي الدولة ويعلنون العصيان تجاه الضريبة.
 

في ظل هذه الأوضاع البائسة، تستنفر الدولة بكلّ مؤسساتها لإقامة أيام سينمائية، فتغدق عليها من المال ما يسد حاجة قرى بأكملها ويطعم أهلها ويكسيهم.. لقد حدثنا رئيس الحكومة يوسف الشاهد منذ تكليفه عن التقشف وحسن التصرف وطالب الشعب في مناسبات عديدة بكثير من الصبر وخاصة التضحية، أفما كان يجدر أن نضحي بهذه الدورة من أيام قرطاج في سبيل التقشف والمحافظة على المال العام؟ خاصة ونحن نعلم جيدا أن مصاريفها ستكون أكثر بكثير من إيراداتها.. ألم نلغ ذات سنة معرض تونس الدولي للكتاب وهو أحد منابع الثقافة القليلة في بلادنا؟ فهل أن حرصنا على سينما تغيب عنها الأعمال الفنية الضخمة أكبر من حرصنا على الكتاب وعلى أموال المجموعة الوطنية؟

إن السخافة تكمن في أن يتحول مهرجان سنيمائي إلى عرض للأجساد والموضة، فتتسابق "الفنانات" في إبراز مفاتنهن والتبجح بفساتينهن دون يتسابقن في عرض أعمالهم الفنية والتنافس فيها.

إني أستحضر في هذا السياق، ردّة فعل الشعب البرازيلي الغاضبة تجاه تنظيم بلده لكأس العالم لكرة القدم لسنة 2014 رغم الفارق الكبير بين الحدثين من حيث حجم الإيرادات، لقد انتفض ذلك الشعب الذي يتنفس كرة القدم ويحياها بشكل يومي لحث حكومة بلده على إلغاء التظاهرة الأكثر شهرة في العالم نظرا للأزمة الاقتصادية التي عاشتها البرازيل آنذاك، فمصلحة البلاد ومعيشة المواطن هي أولوية الأولويات وهي مركز اهتمام الدولة والشعب.
 

هذا لا يحدث في بلدنا بتعلة دعم ثقافة نسمع عنها دون أن نعيشها أو نراها.. الثقافة، ومن منا لا يستسيغ هذه اللفظة ويسعد إذا ما نسبت إليه ويأنس بالجلوس إلى المثقفين ومعاشرتهم ومتابعة أحوالهم وتفاصيل حياتهم؟ فالمثقف هو ذاك "الحكواتي" الذي كان الناس يجتمعون حوله ليروي لهم أخبار سكان وملوك "السند والهند"، والمثقف هو الذي يرشد الناس ويقرأ لهم الصحف ويفسر لهم ما خفي عن اطلاعهم من الظواهر والأحداث، هو الذي يكتب فيتعلم منه الآخرون ويحفظون آثاره عن ظهر قلب، ويرسم فيحاكي الواقع وينقده وينشد تغييره، ويقف على المسرح فتهتز خشباته إبداعا.. أما عندنا فلا شيء من هذا.

نحن في بلد السخافة لا الثقافة.. ولتفصل بينهما ما عليك إلا أن تلقي نظرة على تلك الأيام السنيمائية التي تُحسب ظلما على الثقافة، وتمول من وزارتها. إن السخافة تكمن في أن يتحول مهرجان سنيمائي إلى عرض للأجساد والموضة، فتتسابق "الفنانات" في إبراز مفاتنهن والتبجح بفساتينهن دون يتسابقن في عرض أعمالهم الفنية والتنافس فيها.. وهذا مفهوم، فالسينما عندنا هي جسد دون روح، والممثل هنا تصنعه ظروف عديدة عدا ظرف واحد ألا وهو ظرف الإبداع والفن.. ولعل ما شاهدناه من تحرش مخرج من كبار المخرجين السينمائيين سنا وقامة ببعض الحاضرات في افتتاح قرطاج السينمائي يوحي بذلك ويؤكد خصوصية الشاشة الكبيرة في بلدنا.
 

لقد كذب ذلك الممثل التونسي وهو يصعد على الركح ليخاطب المبدع المصري عادل إمام بقوله "إن كانت مصر أم السينما فتونس أبو السينما"، وذلك على خلفية تجاهل إمام للسينما التونسية إثر الكلمة المقتضبة التي ألقاها بمناسبة تكريمه.. عادل إمام الذي يتقن التملق السياسي ومجاملة الحكّام، لا يجيد قطعا التملق الفني لأنه فنان بحق.. وقد صارحنا بحقيقتنا وكان عادلا معنا في تقييمه لواقعنا السينمائي. ومن السخافة حقا التهجم عليه وهو ضيف فريد من نوعه، هو بحاله سينما يصعب إدراكها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.