شعار قسم مدونات

عندما يرتدي الأفراد عباءة الاغتراب قسراً

blogs - refugee
الاغتراب مصطلح فضفاض بالآمهِ وأسبابهِ ومبراراته، ولا يخفى على أي مُهجر أو مُهاجر أو مغترب أو منفي مدى قسوة هذا القرار الذي يصح القول به "تعبتُ من الخيّار والاختيار فإن كلا البديلين انتحار".

وهنا نضع الأمور في نصابها لأن الهجرة بطبيعتها خسارة للوطن وغصة تعلق في روح المهاجر والبقاء في الوطن بظروفهِ التعسفية موت والخروج منهُ موتٌ أيضاً ، فإن كلا البديلين انتحار!

من تعاقد مع سماسرة الهجرة على أبناء بلدهِ لينجو بنفسه ويحظى بموطئ قدمٍ له ومن معه.. قد فقد هويته!

لو بدأنا بالأسباب المتعارف عليها والتي تبرر الهجرة سنقول بأن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتردية والبطالة والظروف السياسية وما خلفتها من حروب وقت الأمان في قلوب الأفراد، سنقول.. نعم اللهم هجرة.

الهجرة هي موت الأوطان في عيون الشعوب ودليلُ ذلك التدفق البشري الحاصل اليوم على المعابر والحدود من ليبيا وسوريا والعراق ومصر واليمن.. والقائمة تطول!

فمن وهب روحه للبحر مقابل أن ينقله من الوطن إلى المجهول.. قد فقد هويته! ومن قبض على أبنائه بأسنانه وركب موج البحر وأخذ يجدف بأحدهم لينقذ الباقيين منهم قد فقد هويته!

ومن بقي منتظراً خلف الأسلاك الشائكة على حدود البلاد الفاصلة بين موتهِ وحتفه.. ولا يستطيع العبور ولا العودة، قد فقد هويته!

ومن تعاقد مع سماسرة الهجرة على أبناء بلدهِ لينجو بنفسه ويحظى بموطئ قدمٍ له ومن معه.. قد فقد هويته!

ومن يستغل يأس الشباب في تغيير ظروفهم ويتاجر في أملهم في الهجرة.. فاقدٌ لهويته! هي هجرة البحث عن الحقوق التي مزقتها سياساتٌ عربية ما زالت تمارس طقوس هدر الكرامة في الأوطان.

خير مثالٍ على قسوة الهجرة، هي هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام الذي ذاق صنوف العذاب ومن تبعه من الصالحين والصحابة وخرج كُرهاً من أحب البلاد إلى قلبه وطنه مكة المكرمة. فالظلم أساس قبول الرحيل والبحث عن أوطانٍ بديله!

وهناك من جاهد ورابط في وطنهِ رغم تكالب الظروف على حقوقهِ، فهؤلاء أجدادنا آثروا البقاء على الخروج من فلسطين المحتلة والصامدين اليوم في سوريا الجريحة والعراق الممزق، ولكن هذا ما جعلهم يشعرون بالغربة في أوطانهم وذلك أشد قسوة من الرحيل من الأوطان.

فهناك غربة العقيدة والانتماء التي ولدتها الضغوطات الداخلية التي يتعرض لها الأفراد نتيجة الظروف الداخلية التي يتعرضون لها، وللقوانين التعسفية التي يتعايش معها وللحرمان وعدم الكفاية التي يعاني منها وللتسلط الدائم الذي يستعبده ويفقده هويته وذاته.

وقد قال فروم في هذا الصدد أن من أسباب اغتراب الفرد يعود إلى طبيعة المجتمع وسيطرة السلطة وهيمنة القيم والاتجاهات والأفكار التسلطية، فحيث تكون السلطة وعشق القوة يكون الاغتراب. وما خلفته الحروب من غربة في العقيدة أصبح من أسس تمزق الهوية.

والشعراء الذين غادروا بلادهم قسراً لأسبابٍ سياسية، تغنوا في سماء أوطانهم في لحظاتِ حنينٍ جلدت أوتار غيظهم على "الأسباب" التي جعلتهم يغادرونها؟!

تلك الأرواح البريئة التي أزهقت على طريق الهروب من الموت، كانت في يومٍ ما ستصبح قنديلاً يضيء عتمة الوطن!

فما زلت أكرر أبيات من قصيدة "غريبٌ على الخليج" لبدر شاكر السياب كلما نظرت إلى عيون الفارين من الموت وهم يذرفون الأعينا على فراق أوطانهم! فيقول السياب: 
شوقٌ يخضُ دمي إليه … كأن كل دمي اشتهاء
جوعٌ إليه .. كجوع كل دمّ الغريق إلى الهواء..

الشمس أجمل في بلادي من سواها.. والظلام.. حتى الظلام هناك أجمل… فهو يحتضن العراق! ولسان حاله كحال كل المهجرين ظُلماً من بلادهم.. فمن يقول بأن الهجرة قرارٌ طوعي وتنمر الفرد على خيرات وطنهش فهو لا يعي الشعور عندما يصافح المغادر أرض بلادهِ لآخر مرة؟!

ولا يعرف معنى ضيق ذات اليد وثورة البطون ولم يتعرف على اللجوء والنزوح والكوارث الحربية؟! تلك البيوت الهشة التي صنعها المهجرون على أرضٍ لا تشبههم ليست بأثمن من ذرةِ تراب واحدة في أوطانهم، لو تُرك لهم حرية العيش بكرامة.

وتلك الجهود والإنجازات العربية التي تتبناها دولٌ غربية وتحتضنها وتطورها لم تجد فرصتها في بلادها.. وتلك الأرواح البريئة التي أزهقت على طريق الهروب من الموت، كانت في يومٍ ما ستصبح قنديلاً يضيء عتمة الوطن!

ما أريد إيصاله أن المبررات للهجرة أصبحت أكبر من الوطن.. وأن الظلم ظُلمات.. اللهم هجرة.. مؤلمٌ أن نقول لكم.. بأن الحق معكم.. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.