شعار قسم مدونات

حبيبان حتى المشيخ!

blogs-المشيخ

"ريت يا حبُي يوم تموت أنا أموت، لأجل يشيع الخبر، حُبين في تابوت" أن تقترن خاتمتيهما في آنٍ واحد، هذا ما كانت ترجوه طوال حياتها، تجلس قربه فيُرسل إلى قلبها بحوراً من الحب لقاء كل لمسة يد أو همسة حب، ابتسامةً لم يعتريها ذُبولُ العمر أو الجسد، هذا ما يسمونه شراب الحب يا سادة، لقد كانا يرتشفانه على هيئة فنجانٍ من القهوة الصباحية، يصنعانه معاً فيرضيا بمرارة الأيام كما بحلاوتها، وفي كلِ مرة يضمها إلى جسده الضعيف، يُسرُّ إليها بأنها عروسه التي لم تكبر، وأن جمالها لم ولن يخفت، مضى على عمرهما أكثر من ثمانين عاماً كانت جنّة الحياة لهما.
 

علاء الفتى المدلل لأمه، عاد من غربةٍ شاقة، إنه شفاءُ القلب والعين، انتظرته بشوقٍ لم يهدأ لحظةً، طالت بها الأيام أم قصرت، لكن بعد أيامٍ قلائل خاصمت أم علاء فتاها العائد من بعد غياب، علاء لم يرق له الحال مطلقاً "ماذا فعلتُ كي تتهرب عشقي مني، وأنا المحتاج لكلِ ثانيةٍ من دلالها، وحضنها، وتقبيل رأسها، والنوم على ركبتيها" مازحها، اقترب منها، اعتذر تكراراً عن شيء لا يعلمه، دون فائدة، أدخلَ عديداً من الوساطات علّ سمو أميرته تعفو عن ذنبه الذي لا يُغتفر، فيريح ضميره الذي يجلده من غير سبب.
 

همّ الجميع بإنزالها إلى القبر، لتنهال عليهم الاتصالات بأن احتسبوا الأمر عند خالقكم، هم لا يعلمون أن هؤلاء يعزونهم في أبيهم من بعد أمهم، كانت بمثابة صخرة شجّت رؤوسهم

قرّرَتْ من بعد ثلاث ليالٍ من الهجر أن تصارح فتاها بما فعل "لماذا تُمازح أباك بأنك ستزوجه من امرأة أخرى، هل هذا هو جزاء تربيتي لك، والسهر على راحتك، والدعاء لك في كل صلاة، علاء كاد قلبه ينفجر، يكتم ضحكته التي تدغدغ قلبه خشية أن ينتكس الصلح مع حبيبة قلبه، نعم إنها مازالت تحبه وتغار عليه، تحاول أن تستولي على عرش قلبه حتى آخر لحظة من حياته وتقاتل من أجله.
 

أخبَرتْ علاء وقسمات الغضب على محياها "بدلاً من جلبِ امرأةٍ أخرى له، ركّب له طقماً من الأسنان كي يستطيع مضغ طعامه"، هي تصفعه بكلماتها لتقول له أن اهتم بحال والدك أكثر بدلاً من تزويجه، هي متيقنة في قرارة نفسها أن لا متسع في عمره لزوجةٍ أخرى، لكنها الغيرة والحب الذي يشتعل إذا ما فكّر أحد أن يسلب منها حياتها.
 

لم يشخ حبها له، فلطالما كان سندها الذي تتكئ عليه كلما أوجعها القلب، مرهماً لها إذا ما جرحتها الأيام، إنه كنز الحياة وثمرة حبها، والدها وأخوها وزوجها وصديقها الذي يحفظ وداد عمرٍ وهبته من أجل ابتسامةٍ تشق مبسمه فتنير حياتهما وإن تعاتبا، هي قوية به، شجاعة بفيض أمانته على عمرها، مطمئنة إذا ما سار الأبناء إلى عوالمهم، فزوجها العالم الفريد الذي لا يتكرر.
 

صحة أبي علاء تتدهور يوماً بعد آخر، وزوجته لا تكّف عن الدعاء أن يحفظه الله لما تبقى من حياتها، تتفانى من أجل راحته، تحاول التخفيف عنه بقدر ما تسنح لها صحتها وزيادة، تطلبُ منه أن يعفو عن زلاتها وتقصيرها، أو أي ضيقٍ نغّص على راحته ولو لدقيقة، وأن يُسامح غيرتها وعنادها وحساسيتها المفرطة مهما صغر الموقف، وعلى هذا المنوال استمرت حتى تلك الليلة. ومما لم يرد في حديث الأربعاء أن اليوم سيكون الأخير وأن اللحظات الصعبة لابد أن تحدث، إنها اللحظة الأخيرة التي ستتسع في مساحتها كما لو أنها عُمر كامل.
 

جلست إلى جانبه، وأسندت رأسها قليلاً عند قدميه الممددتين على سرير المرض، ظن الجميع أنها تغفو لتستريح، لكن جسدها لم يكن صلبا كالعادة، لم تتمالك أطرافها المتثاقلة كما في كل مرة، تجمهر الأبناء في محاولاتٍ صامتةٍ لنقلها خارج غرفة التطبيب، فقد كانوا يخشون أن يتنبه والدهم لها، حملوها كما لو أنها عروس اليوم.
 

تفقد الأبناء والدتهم في محاولاتٍ لإقناع أنفسهم أنه ما زال في رصيدها لحظات كي تتنفس الحبّ ذاته، لم يكن الأمر هيناً كما ظن الجميع، لقد تصلبت الجميلة النائمة حتى لم تعد تجب أياً منهم، لقد رحلت إثر نوبةٍ قلبية مفاجئة، بكى الجميع حتى خُيّل إلى بعضهم أنه السطر الأخير في رواية الحب الخالد، وأن الحياة لن تعني لهم شيئاً بعد اليوم.
 

إنه الاحترام الذي لا ينته، والتضحية بكل شيء من أجل الآخر، إنّه الصبر الذي يُكافأ بالجنة، إنه الحب الذي ينمو ولا يتقلص، إنه عشقٌ أصيلٌ لا يتبدَّل مع الظروف وكِهلُ العمر.

نُقل جسد الأم إلى الشقة المجاورة لبدء مراسم تكفينها وتكفين أرواحهم اليتيمة من بعدها، وأثناء ذلك قررت الشقيقة تفقد والدها الذي تُرك قبل قليل، لتتحسس خبره، دخلت عليه، إنه يشيح ببصره عنها إلى الأعلى متنهداً، نظر إليها ثم قال"ماتت أمك"، لم تجب! وكيف لها أن تجيب على سؤالٍ هو الأصعب في حياة المرء، غطّ في موجةٍ من البكاء الذي يحرق القلب، تأوهاً على بعد معشوقته عنه لأول مرة، إنها لم تتركه قط، فلماذا تنقض العهد هذه المرة، وترميه للأيام وحيداً دون حبها.
 

ذهب الأبناء لإتمام مراسم دفن جثمان أمهم، وبقيت الشقيقات في البيت، وخلال التحضير لإقامة سرادق العزاء، ذهبت إحداهن مرةً أخرى لتطمئن على والدها ولتصبّر قلبه، دخلت عليه غرفته.. ما باله، يبدو أنه متعبٌ قليلاً، اقتربت أكثر، لتُصعق بما رأته، لم تصدق عينيها، لا بد من أنه بخير، المشهد يتكرر في أقل من ساعة، جسدٌ هامدٌ وممددٌ دون أنفاس تحييه، تقلبه لتكذّب عقلها، لكن أنىّ لهذا أن يطول، إنها الروح قد ذهبت لرفيقتها التي تأبى مفارقتها مطلقاً.
 

مازال الأبناء يلتفون حول أمهم، يتهامسون بدموعهم التي لم تجّف، همّ الجميع بإنزالها إلى القبر، لتنهال عليهم الاتصالات بأن احتسبوا الأمر عند خالقكم، هم لا يعلمون أن هؤلاء يعزونهم في أبيهم من بعد أمهم، كانت بمثابة صخرة شجّت رؤوسهم ليعيشوا في صدمة، جاء الوالد محمولاً على الأكتاف، ليمضي ليلته مع زوجته في قبرها، ليؤنس وحشتها في أول ليلةٍ لها، التقى الحبيبان في نفس المثوى والقبر، ساعة واحدة فقط حاولت أن تفرِّق حباً قارب عمره السبعين عاماً.
 

إنّه الإخلاص الذي لا يُدرّسُ عبر النظريات أو المسلسلات والأفلام، إنّه الحب النابع من أعماق القلب، إنه مضمارٌ يتنافس فيه المحبون بالعطاء أكثر، إنه الاحترام الذي لا ينته، والتضحية بكل شيء من أجل الآخر، إنّه الصبر الذي يُكافأ بالجنة، إنه الحب الذي ينمو ولا يتقلص، إنه عشقٌ أصيلٌ لا يتبدَّل مع الظروف وكِهلُ العمر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.