شعار قسم مدونات

قف للمعلم وفّه التبجيلا

Palestinian student from the West Bank Bedouins community of Guwein, respond to their teacher inside a classroom at their school, south Hebron, 25 October 2016. According to local sources, the mixed-gender school which was funded by the French government in October 2015 and currently have 15 students enrolled, received a closure order from the Israeli Civil Administration, the Council of Planning and Building, for illegal building.

"والدتك قد نامت منذ نصف ساعة أو أكثر مرهقة " هكذا أخبرني والدي في محادثتنا الهاتفية وأنا أطلب منه أن يمرر الهاتف لأمي لأطمئن عليها.. "الساعة لم تشر إلى الثامنة ليلا بعد، ولا زلنا في بداية الأسبوع"، ثم أبلغني أنها لم تتعود على وتيرة العمل ومن الطبيعي أن تشعر بالإرهاق.. وتعددت مبرراته محاولاً أن يشعرني بأن الوضع طبيعي فلا يشغل بالي عن دراستي وانتهت بعد ذلك المكالمة.
 

والدتي قضت أكثر من نصف عمرها في مهنة التعليم، تربي أجيالا وأجيالا فتذوب لتنيرها وتذبل لتسقيها، ينطفئ نورها، وينهك جسدها عاماً بعد عام فقط من أجل هذه الأجيال.
 

كنت كثيراً ما أطلب من أمي أن تهون على نفسها، وأن لا تهتم أكثر من اللازم، لكن بدون جدوى حتى فهمت ما معنى أن يكاد المعلم أن يكون رسولا.

كذلك والدي اشتعل رأسه شيباً بعد أن أمضى أكثر من ربع قرن يعلم ويلقن ويقوم بواجبه على أحسن ما يكون.. نعم، أكثر من ربع قرن امتهن فيها التدريس ولا يزال يقف حازماً بمئزره الأبيض على المنضدة، يعطي درساً، يمرر عبرة ويهذب خلقاً.
 

ساعات متتالية يقضيانها يومياً في الصف بكل تعبها ومشقتها، ويقضيان مثلها في البيت إما يعدان دفاتراً أو يصلحان فروضاً أو يحضران تماريناً أو يتناقشان في مشكلة أحد الطلاب، فأمي قلقة من أجل تلميذتها التي ترسب في نفس السنة للمرة الثالثة ولم تبدي أي تحسن رغم الجهود والعناية الخاصة التي تفردها بها، وأبي يؤلمه حال طلاب صفه الذين لا تغطي أجسادهم الصغيرة سوى خرق بالية في برد الشتاء، ويفكر بأن يقترح على المدرسين بجمع التبرعات لهم.. وكانت محادثاتهم هذه كثيراً ما تثير غيرتي مذ كنت طفلة لأني أشعر أن اهتمامهم بطلابهم زائد ونحن في نهاية الأمر أبناؤهم وأولى بهذا الاهتمام.
 

حتى في الأوقات التي يبتعدان فيها أبي وأمي عن هم التعليم ومشاكله ويقرران متابعة نشرة الأخبار فينطق المذيع-لسوء حظه وحظنا- بخطأ لغوي لتتحول بذلك سهرتنا العائلية إلى حصة لغة ومحاضرة في النحو والصرف وقواعد اللغة العربية حتى أنني وإخوتي حفظنا هذه القواعد عن ظهر قلب منذ صغرنا.
 

وأما إذا سافرنا ومررنا بأحد المعالم التاريخية والأسوار العريقة، يقف والدي عندها ويلقي علينا درساً في التاريخ ويقص علينا سيرة أجدادنا.. أحيانا كانت هذه الحكايات تبدو لي مملة، لكني عندما أصبحت أعي صارت تعني لي كل هذه التفاصيل كثيراً.
 

كبرنا وكبر أبي وأمي أكثر مما كبرنا نحن، سرق التعليم أغلى ما عندهما.. صحتهما، ضعفت أنظارهما، ومرت فترة على أبي أصبح كلما استيقظ من النوم سمعنا آهاته يتألم من مرض أصابه في قدميه من كثرة الوقوف فصار لا يستطيع الوقوف عليهما، ومرّ عام بأكمله وهو على هذه الحالة، صارت أمي منذ أكثر من ست سنوات تعاني من آلام مزمنة في يدها اليمنى تزداد كل سنة مع قدوم العودة المدرسية.
 

ومع كل هذا يتحاملان على نفسيهما كل صباح ليتما تأدية واجبهما الأسمى، فصحتهما في نظرهما فانية لا محالة، لكن هذه الأجيال التي يعدانها ستكون ذخرا وذريعة للوطن.
كنت كثيراً ما أطلب من أمي أن تهون على نفسها، وأن لا تهتم أكثر من اللازم، لكن بدون جدوى حتى فهمت ما معنى أن يكاد المعلم أن يكون رسولا.
 

فالطفل يأتي للمدرسة يعقد التلعثم لسانه، لا يكاد يفقه نطق اسمه، صفحة بيضاء فارغة على ما في طيها من الإبداع وروح الخلق فينفث فيها المعلم شيئا من روحه ويمسح عنها الغبار، يصقلها ويهذبها ويأتي معلم آخر يضيف لبنة أخرى في هذه الصفحة، ومع مرور السنوات تمتلئ الصفحة باللبنات، ويصبح هذا الطفل مهندساً وطبيباً وعالماً وباحثاً ومعلماً كذلك، كل ذلك بفضل تضافر جهود المعلم الذي لا هم عنده سوى أن يرى الطفل الذي جاءه بالأمس رجلاً عاقلاً عالماً يفيد البلاد والعباد، هذا كل ما ينتظره، وحينها فقط سيشعر بقداسة ما جاء من أجله وسيشعر بأنه أدى الرسالة التي بعث من أجلها .
 

أستيقظ كل صباح متكاسلة، منهكة، أفكر بما ينتظرني من تعب في هذا اليوم الدراسي وفي كل الأيام والسنوات الكثيرة التي تنتظرني.

إلى أبي، إلى أمي، إلى ذلك المعلم الذي علمني كيف أنطق الألف، إلى معلمتي التي غرست في أملاً وزرعت في حلماً أحيا به، إلى أستاذي الذي همس في أذني ذات مرة "أغرتني ورقة إنتاجك فلم أستطع أن أؤجل قراءتها إلى حين أجد وقتاً لإصلاح الفروض فقرأتها، أحسنت يا سارة "، إلى أستاذتي التي علمتني معنى البذل والعمل وحلاوة حصاد ثمرتهما، إلى كل أستاذ لم يكتف بتدريسنا برامج جافة ويمضي وسعاً أن يعلمنا قيماً نعيش بها ومن أجلها، إلى تلك المربية التي رغم مرضها ورغم الهالات السوداء التي أحاطت بعينيها أبت أن تتغيب علينا ووقفت ببسمة تستقبلنا متناسية آلامها، إلى كل مدرس جلست يوماً في مقاعد درسه، شجعني أم وبخني أنحني لكم كلكم وبدون استثناء .أهديتمونا أغلى ما عندكم وآمنتم أن كل درجة، "نصعدها نحن في سلم العلم والمعرفة، تصعدون أنتم معنا بها ألف درجة ودرجة"، دمتم ودام عطاؤكم.
 

أستيقظ كل صباح متكاسلة، منهكة، أفكر بما ينتظرني من تعب في هذا اليوم الدراسي وفي كل الأيام والسنوات الكثيرة التي تنتظرني، ثم أفكر أنني في بداية طريق تحقيق حلم أبي، وأتذكر صحة مدرسيي طيلة الأعوام الماضية التي قد تهدر إن عدلت عن تحقيق حلمي، فتشتعل في شعلة تجدد همتي وعزيمتي لأطارد الكسل وأستيقظ، وتتواصل المعركة ..

"قفْ المعلم وفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا "

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.