شعار قسم مدونات

أحقًا بالعلم تُبنى الأمم؟

Remon Ashraf, an Egyptian Chemical Engineering college student, walks into the British University in Egypt, in Cairo, Egypt, August 29, 2016. Picture taken August 29, 2016. REUTERS/Mohamed Abd El Ghany

"إن الإسلام دين وجودي يُقدم تفسيرًا للوجود ويضع الإنسان فى موقع معين منه مجيبًا على الأسئلة الوجودية الخالدة؛ من أين؟ وإلى أين؟ وكيف؟ ولماذا؟ " الأستاذ فريد الأنصاري.
 

(1)
إن الإسلام ليس دينًا تعبديًا ينظم علاقة الإنسان بربه فقط؛ ولكنّه دين عظيم يستوعب كل صور الحياة. فكما أنه ينظم علاقة الإنسان بربه الخالق فكذا ينظم علاقة الإنسان بالكون والحياة وعلاقة الإنسان ببني جنسه وحتى علاقته بنفسه. دينٌ جاء لبناء منظومة كاملة من الإنسانية الحَقَّة ولإنشاء واقع للإنسان يعيش فيه مكرمًا مُحقِقًا لهويته الإسلامية التي هي شاملة لكل صور الحياة وليست خاصة بالمسائل العقدية والأخلاقية فقط، كما أنه جاء لتحقيق الحياة الرشيدة للذين يدينون به ويعيشون في كَنَفِه، فهناك ثلاث ضروريات من أصل خمس جاء الإسلام لحفظها لها علاقة بالواقع وبالحياة ألا وهي: حفظ النفس والنسل والمال.
 

فإذا كان الإسلام دين شمولي لكل الحياة أصبح العلم والفكر واجبًا من الواجبات لأنه يحقق قدرًا من هذه الشمولية. وإذا أردنا أن نحقق هوية الإسلام فعلينا الاهتمام بالجانب العلمي الفكري لأنه يتعلق بالجانب الحضاري والواقعي. يقول جورج استناسيو: "لكل حضارة من الحضارات تصور كوني للعالم؛ أي نظرة يُفهم وفقًا لها كل شيء ويُقيَّم، والتصور السائد في حضارة ما هو الذي يحدد معالمها، ويشكل اللُّحمة بين عناصر معارفها، ويملي منهجيتها، ويوجه تربيتها".
 

"والمسلمون اليوم يعانون عبوديةً مضاعفة؛ فمن أوطانهم ما توجد فيه العبودية بنوعيها، ومنها ما يقل فيه جانب العبودية السياسية ويرجح جانب العبودية المعنوية.

والبناء العلمي المعرفي ضروري لتحقيق الجهاد الدفاعي عن الأمة والانتقال من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم، فغاية المدافع أن يتقي الضربات؛ لا أن يقيم تصوره وهويته. والفكر والعلم ضروريان أيضًا للخلص من التبعية الفكرية والتصورية؛ فنتيجةً لهزيمة الحضارة الإسلامية وانتصار الحضارة الغربية على العالم وسيطرة الروح الانهزامية على العالم الإسلامى ظهر ذلك الانهزام في حياة المسلمين وحضاراتهم.
 

يقول الأستاذ أبو الأعلى المودودي "والمسلمون اليوم يعانون عبوديةً مضاعفة؛ فمن أوطانهم ما توجد فيه العبودية بنوعيها، ومنها ما يقل فيه جانب العبودية السياسية ويرجح جانب العبودية المعنوية. ومن سوء الحظ أنه ليست لهم على ظهر الأرض رقعة إسلامية مستقلة تمام الاستقلال من الوجهتين السياسية والمعنوية، وأما البلاد التى قد حصلت لهم فيها الحرية والاستقلال السياسي فهي ليست متحررة من رِبقة العبودية الفكرية. فها هي مدارسهم، وبيوتهم وأسواقهم ومجتمعاتهم، وحتي أجسامهم وأشخاصهم تشهد كلها بأنه قد استولت عليهم حضارة الغرب وامتلكت نفوسَهم علومُه وآدابُه وأفكارُه؛ فهم لا يفكرون إلاّ بعقول غربية، ولا يسلكون إلاّ الطرق التي قد مهدها لهم الغرب.
 

إن المقياس الصحيح في نفوسهم للحق والصدق والآداب والإنسانية هو الذي قرره الغرب لكل ذلك. فيقيسون بهذا المقياس ما بأيديهم من العقيدة والإيمان، ويختبرون ما عندهم من الأفكار والتصورات والأخلاق والآداب. فكل ما يطابق منها ذلك المقياس يطمئنون إليه، ويفتخرون بمجيء أمر من أمورهم موافقًا للمعيار الأوروبي، وأما ما لا يطابقه منها فيظنونه خطأ وباطلاً شعروا بذلك أم لم يشعروا. 

(2)
في مصر -والمثال يَسري على كثيرٍ من بلاد الربيع العربي ولكن يتفاوت بتفاوت خصوصيات كل بلد على حده- وبعد عقود من القمع حكمت فيها بالحديد والنار، واشتد القمع والتضييق حتي بلغ مبلغه وظنّ المصريون ألا عاصم لهم من الطاغية المخلوع؛ لاحت في الأفق ثورة الخامس و العشرين من يناير مؤذنةً بميلاد فجر جديد وانكشفت الغمة وكانت "الحرية" للكلمة والرأي..

وكان شباب الإسلاميين كغيرهم ممّن طالهم القمع فكان من الطرق التي سلكوها، حين سدت منافذ الحركة، طريق العلم والمعرفة. وبعد أن كان الفضاء "حركيًا"، أصبح "معرفيًا".

انطلق الإسلاميون -وغيرهم- في تكوين الأحزاب والجبهات والإعلان عن الكيانات، وعقد اللقاءات والمؤتمرات لحشد المؤيدين من كل حدبٍ وصوب لأجل تحقيق مشروعهم. وكان الفضاء آنذاك "حركيًا" بامتياز. ففي عام 2012 رصد المركز المصري للحقوق الاجتماعية والاقتصادية 851 وقفة، و561 قطع طرق، و558 تظاهرة، و514 إضرابًا و500 حالة اعتصام، و163 حالة تجمهر، و140 مسيرة بحسب التقرير.
 

وتحت غبار تلك المعارك الطاحنة وضجيج المظاهرات كان هناك في ركن بعيد منزوٍ نفرٌ من الشباب مهتمون بالشق العملي المعرفي عاكفون على كتبهم وأبحاثهم وحلقاتهم العلمية، وهم الذين ما انكشفوا للرائي البعيد حتي انقشع غبار الحركية التي سرعان ما خفت صوتها بعدما حل الانقلاب وسُدَّت معه منافذ الحركة والرأي وجلس "البعض" يعيد ترتيب أوراقه ناظرًا فيما بين يديه من مقدمات باحثًا عن مخرج للأزمة.
 

وكان شباب الإسلاميين كغيرهم ممّن طالهم القمع فكان من الطرق التي سلكوها، حين سدت منافذ الحركة، طريق العلم والمعرفة. وبعد أن كان الفضاء "حركيًا"، أصبح "معرفيًا". فانحدر منحنى الفضاء الحركي وبدأ منحى الفضاء المعرفي فى الصعود. وكما أن "للفضاء الحركي" رجالاته ورموزه ومؤسساته ومصطلحاته التي يستخدمها؛ فأيضًا "للفضاء المعرفي" رجالاته ورموزه الذين يتصدرون مشهده ومؤسساته ومصطلحاته التي يستخدمها. فلما قضى الجنرال على الأحزاب والجبهات والحركات ظهرت على السطح الكيانات العلمية والمعرفية ونماذج المحاكاة.

فبعد أن كان القيادي والزعيم السياسي والخبير الاقتصادي يتصدر المشهد الحركي، صار المفكر والباحث والكاتب والشيخ هم الذين يتصدرون المشهد المعرفي. ودرجت على ألسنة الشباب مصطحات وشعارات جديدة لا عهد لكثير منهم بها ممن انهمكوا فى دنيا الفضاء الحركي والمظاهرات من قَبل كـ"العلم أولًا، و"بالعلم نحيا" واصطلحوا على تسمية المعركة الجديدة "معركة الوعى"، وطرحوا سؤال التقدم والنهضة وبدؤوا في طرح تساؤلات جديدة عن تعريف المدنيّة، والحضارة، والتقدم، والنهضة.
 

أوليس من الممكن أن يأتي الجنرال في لحظة ما ويهدم كل هذا ويجعل عاليه سافله، ويحرق الكتاب ويعتقل الكاتب والباحث والمفكر وحتي يقتله!

وعقدت المحاضرات والندوات التثقيفية والمعرفية ومناقشات الكتب والوثائقيات، وتداولت بنيهم أسماء الكتب ودور النشر ومراكز الأبحاث والدراسات وزاد الإقبال والاهتمام بمعارض الكتاب حتى وصل عدد زوار معرض القاهرة للكتاب إلى مليوني زائر في نسخته الـ 46 لعام الماضى -بحسب الهيئة المصرية العامة للكتاب- في حين أنه فى نسخته الـ43 عام 2012 لم يتجاوز عدد الزائرين مليون زائر؛ أي النصف تقريبًا.
 

نحن هنا لسنا بصدد عقد مفاصلة بين المسار الحركي والمسار المعرفي؛ ولكن الأمر بالنسبة إلينا تراتبي تراكبي ليس إلاّ، فكل خطوة حركية لا تسبقها أخرى علمية معرفية فاشلة ولا بد، وكذا كل حركي أو معرفي غير مُستَوعب عبثٌ لا ثمار له ولا بد. فالعلم والمعرفة مهمان ولا شك، فكما أن المجاهد على غير علم شرعي قاطع طريق؛ فكذا المصلح والحامل لهمِّ أمّته إذا تحرك لنهضتها على جهل أمرضها من حيث أراد أن يداويها.
 

و لكن ثمّة تساؤلات نرى أنه من الواجب طرحها:
– لِم لَم يكن "العلم أولًا" بهذه الحماسة إلا بعد القمع والتضييق ولَم يكن في وقت الحرية والسعة؟ أم أنها طاقات شباب لابد من تفريغها سواء أكانت في منحى حركي أو معرفي؟

-هل كان تحول الشباب الإسلامي عن الفضاء الحركي إلى الفضاء المعرفي عقب الانقلاب انتقال واعٍ ناشئ عن عملية مراجعة حقيقية وتنيقب في أسباب فشل التجربة أم هو مجرّد ردة فعل لغلق مساحات الحركة؟

– وما المقصود بالوعي؟ وأي شيء ذلك الذي ينبغي أن نعيَه؟ أهو الوعي بالمشكلة أم الوعي بالذات؟ أم شئ آخر؟

– وهَبْ أننا تجاوزنا هذه الأسئلة؛ فماذا بعد؟ وهل هذا الطريق المعرفي هو المخرج؟

– أوليس من الممكن أن يأتي الجنرال في لحظة ما ويهدم كل هذا ويجعل عاليه سافله، ويحرق الكتاب ويعتقل الكاتب والباحث والمفكر وحتي يقتله!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.