شعار قسم مدونات

عن أوطان تلقي أبناءها في مطحنة القمامة

blogs -محسن
أن تكون عربياً من بلاد القهر، معناه أن تستباح كرامتك، أن تعيش تحت خط الخضوع راضيا أو يهدر دمك، أن ترجئ الموت أكثر من مرة ثم تذهب إليه بلا رغبة في الوصول، أن تصل إلى ذروة الألم تفسخ العقد المبرم بينك وبين الحياة، وأي حياة في وطن يطحن أبناءه بدم بارد وعيون شاخصة!

ما ذنبك يا شهيد الخبز والكرامة -محسن فكري- الذي طحنه رجال الشرطة المغربية في شاحنة القمامة مع بضاعته لأنه دافع عن حقه في العيش بلا مذلة تحت مسمى "الوطن للجميع"، لكنه لم يتسع لشرف إيوائه من لصوص الحياة الذين يخافون قوة الضعيف المستعصية على الإدراك فآثروا خلاصهم بتمرير سكين صدئة على عنقه.. من أي مادة صنع هؤلاء الذين لا يمتون للبشرية بصلة؟

 

أيعلم سادة الوطن أننا ما عدنا نثق بشعارات العدل والحريّة ما دامت لم ترتفع أسهم الإنسان فيك يا بلدي، ما دمنا لم نخرج من رحلة التيه ولم تطمئن ذواتنا الخائفة.

آه من هذا الوطن المرثيّ الراثي الذي لا ينفك يفتك بنا بلا رأفة، نقترب فيبتعد، يراوغنا مراوغة الثعالب على جرف يؤدي إلى هاوية، يمارس فينا لعبة التعذيب ويترك الندبة مفتوحة على مزيد من الوجع ثم يرمي بنا في جبّ الموت بلا رحمة، تخترق خناجره صدورنا العارية ويغزونا بلا نهاية، يأخذنا إلى ما لا نعرف في سفر بلا عناوين، يخاطبنا بمنطق لا نفهمه، يقايضنا عن أحزاننا في عمر عابر، يعدّ جنائزنا بابتسامة سافرة، يزفّ نعينا في كل مناسبة ويسحقنا دون أن يترك لنا فرصة أخيرة لنودع وجوها لم يتسع لها سوى المقعد الاحتياطي للحياة..
 

ليلُ كل الجروحِ.. وطني
وطنُ الحزن الوَلودِ
وطن الحمائمِ النائحةِ والمآذن الباكية
إنني أمشي على السفوح النائمة
أقاوم لسع الأقحوانِ على المرايا المحطمة
أشهد ميلاد العواصف
أحفظ الأسماء كلها
ذكرى الراحلين
أحلم بليلة صيف
بموتى يروون القصصَ في ليل الشتات
 

هذه الأرض صارت مصيدة للأرواح وفخاً لتثبيت الألم في مكانه، أيعلم القائمون على البلاد والعباد أننا شعب قصت جوانحه وما عاد يحلم بالطيران، ذابت آمالنا وساحت على أرض ما عادت تحمل أقدامنا، شاخت أحلامنا المتعبة من طابور الانتظار، انتظار الغد الموبوء بالعذابات، تشققت قلوبنا بين واقع يروى وآخر نعيشه، كبرت أحزاننا على مهل وكبر الشبح المذعور فينا، تقاذفنا الأقدار في المسافة الفاصلة بين الوعي واللاوعي، أنهكنا ظلام اللون وضَلال التأويل وطفح الغد المجهول، ضعنا في مساحة الموت الواسع وحبسنا أنفاسنا الملقاة على جسد يتعذب..
 

أيعلم سادة الوطن أننا ما عدنا نثق بشعارات العدل والحريّة ما دامت لم ترتفع أسهم الإنسان فيك يا بلدي، ما دمنا لم نخرج من رحلة التيه ولم تطمئن ذواتنا الخائفة، ما عدنا نثق بسقاة السم الذين يطاردون شبح الموت الممتد ملء السمع والبصر، يقودوننا كل صباح إلى مجهول جديد لنحصي قتلانا وجرحانا، نتمدد على هدير الصمت المشحون بالآهات، نقف بهشاشة المغلوب الحائر أمام ماكينة الدولة التي تسحق مواطنيها بكبرياء ظالم..
 

بلادي موت يمشي على قدمين
وجه يابسٌ محروق بالأغلال
جنديّ قديمٌ
بزيّ مقاتلٍ
يضفر الأحزانَ
في ليل السجونْ
يعزف أغاني الحربْ
عند باب الفجرْ
هناك.. حيث حقولُ الزنابقِ البيضاءَ
بالأحمر مضمخة
 

هؤلاء الذين طغوا لا يعلمون أن الماء سيتفجر من قاع بئر مهجورة، أن الشجيرة ستصير غابة واللحن الحزين سيصير أغنية، أن النجوم الحائرة ستروض الكواكب وأن نواصي الخيل ستصهل من جديد.. هؤلاء الذين طغوا لا يعلمون أن الظلم ظلمات ستغشي أبصارهم، أن صرخة الجرح ستصم آذانهم وأن خزانة الذاكرة ستحفظ الوجع عن ظهر قلب..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.