شعار قسم مدونات

الغُربة المُؤلمة!

blogs-الغربة
وأعظمُ ما يؤذي ابنَ آدم غُربة تَمكّنت مِنه في أرضٍ ليس بِها أهلٌ ولا أصدقاء -وحيدان نحن- 
فأين أنتَ مِن غريبٍ طالت غُربتُه عن وطنه؟! فالبُعد عن الوطن ليس بشئٍ يُحسد عليه أبداً فالناس تحسُدك دائِماً علي شئ لا يستحِقُ الحسد لأن متاعهم هو سقُوط متاعِك حتي علي الغُربة يحسدونك كأنما التّشردُ مكسب وعليك أن تدفع ضريبَته نقداً وحقداً.

فالغُربة يا رجل فاجِعة يتمُ إدراكُها علي مراحل ولا يُستكمل الوعي بها إلا بانغلاقِ ذلك التّابوت على أسئلتك التي بقيت مفتوحة عمراً بأكملة ولن تكون هنا يومها لتعرف كم كُنت غريباً قبل ذلك؟ وكم ستُصبح منفيِّاً بعد الآن..؟ فأين تلك الراحة والهُدوء في أن يمضي المرءُ تارِكاً خلفهُ رَوحهُ وحياته، فحتي لو قتل فينا هذا الوطن كلّ جميل كُنّا نسعي لأن نُنبته فيه فسيظل ذلك المكان أول مكانٍ فُتحت فيه أعيُننا واستنشقنا فيه أول ذرةِ هواءٍ لنا فرُبما يحق علينا نحنُ أن نعيد كلّ جميلٍ سُلب مِنا ومن وطننا -لكنِّ لآ أعلمُ متي يحن ذلك الوقت!

يا ابنتي الغُربة قتلتنا ولا شئ يُحينا سوي عودتنا.. يا ابنتي الغُربة مُؤلِمة جداً ومُوجِعة أيضاً ومُبكية لأبعدِ الحُدود.

كلّ منّا يرغب بركوبِ طائِرة لايُهِم أبداً إلي أين تُحلق الأهمُ أن نخرجَ أنفُسنا من الوطن الذي لعنهُ البعض عِدةَ مرات -ومازال البعضُ يفعل- لا ألومُك إن سافرت لتلقي بعض المرح والاستمتاع ففي النِهاية أنتَ تعلم متي تعود وأيضاً عودتُك ستكُن برغبَةٍ منك، لكن ما بالُك بآخرٍ سافر دوناً عن رغبةٍ منه وأيضاً لا يعلم متي يحن وقت عودته!

فعندما يهبُ المرء تاركاً مكانه ذاهِباً لآخر فحتماً في ذلك الكثير الكثير من الأوجاعِ والألآم لا يُمكِن وصفُها ولا يُمكن لأحدٍ الشعور بها سوي من عاشها سابقاً أو من مازال يُعاني مِنها إلي الآن، فالبعض عندما يمتلئُ بالغُربة يتحول إلي شُتاتٌ لبقايا مدينةٍ مَنسيّة مالها في النور مِن آتٍ إلا أن يشاء الله.

 أندهش مِنّي كثيراً الآن فلم أكُن أتخيّل نفسي أكتُب شيئاً عن الوطن فدائماً ما كنت أكره كلّ ما يتعلق به وأسخر منه، لكن لعلِّ الآن تعلمت جيداّ أن حُبّ الوطن ليس شيئاً بإرادتنا بل إنه شئٌ فينا منذ أولِ يومٍ رأت فيه أعيُننا الشمس..

يرانا البعض نبتسم في الصور أحياناً كثيرة فيظُن أنّ كلّ ما قيل ومازال يُقال في حق المُغتربين ما هو إلا هُراء لا يَمس الواقع بشئ، أُشفق كثيراً علي هذا الشخص فهو لا يعلمُ مدي مُعاناتنا في أن نتصنع تلك الابتسامة لتَكُن سبباً لجعلِ الصورة تُشع بهجةً وأملاً لكلِّ من يراها!

أذكر عندما كان أبي يعود مِن العمل فبعد إلقاءهِ للسلام يذهبُ مباشرةً للتلفاز وخاضةً القنوات الإخبارية ليري كلّ ما هو جديد -لا أعلم- لكنِّ كنت أري أن هذا الفعل غريبٌ بعضَ الشئ إلي حين سؤالي أبي عن ذلك.

فبعد طرحي السُؤال عليه بدا لي كأنه لا يودُ الإجابة عليه نِهائياً، لكن بعد إلحاحٍ طويلٍ عليه.أجابَ قائِلاً: أفعلُ ذلك آمِلاً أن أري أخباراً تُشير إلي أنّه بإمكان كلّ مغتربِ الآن أن يعود سالماً لوطنه ليحتفل، فحينها لن أنتظر في مكاني لِلحظه وسأكون علي أولِ طائرة عائدة للوطن -ثُمّ توقف لوهلةٍ- وأعادَ قائِلاً: يا ابنتي الغُربة قتلتنا ولا شئ يُحينا سوي عودتنا.. يا ابنتي الغُربة مُؤلِمة جداً ومُوجِعة أيضاً ومُبكية لأبعدِ الحُدود.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.