شعار قسم مدونات

حين يكون الحياد جريمة

blogs-معركة حلب

تقدم الأمم المتحدة نفسها كمؤسسة ذات وجهين؛ الأول وجه يعبر عنه مجلس الأمن وهو وجه طالما ظهر قبحه،حيث غابت عنه في أكثر أحواله نظرة العدالة والحق وطغت عليه المصالح الضيقة للكبار وتحالفاتهم، والثاني وجه تعبر عنه المنظمات التنموية والإغاثية كان يفترض فيه أن يكون الوجه الإنساني والمحايد والأخلاقي للمنظمة.

ولضمان نزاهة عملها اعتمدت المنظمة لفروعها الإغاثية مبدأ الحياد في تعاملها مع الأزمات معفية إياها من التدخل في أسباب الأزمات أو تحديد المذنبين في وقوعها، لكنها غفلت عن أن هذه المقاربة لم تكن لتنجح دون أن يمارس مجلس الأمن دوره في نصرة المظلوم والأخذ على يد الظالم.

 

السكوت عن الجريمة وإدارة الظهر لها بأية حجة كانت هو جريمة تطال الأفراد الذين اختاروا السكوت والمؤسسات التي أرغمتهم عليه

وفي الواقع تكرر بصورة معيبة إخلال مجلس الأمن بواجباته بينما حافظت منظمات الأمم المتحدة المعنية بالإغاثة على التزام مطلق، وأحياناً كثيرة أعمى بمبدأ الحياد لدرجة أن أضحى هذا الالتزام مبررا لسكوتها عن إدانة المجرم أو التلميح عنه حتى ولو ارتكب جريمته تحت سمعها وبصرها، وحجتها في هذا السكوت ما يمكن أن يؤثر عليه ابتعادها عن الحياد على استمرار عملها وعلى سلامة موظفيها.

في سورية وعلى مدى أكثر من خمس سنوات ارتكب النظام وحلفاؤه كل أنواع جرائم الحرب والإبادة ضد شعبه، واتخذ إجرامه نهجاً تصاعديا متماديا وقحاً ومتعجرفاً بعد أن غابت عن ملفات إدانته القانونية والإعلامية شهادات حاسمة، امتنعت عن الأدلاء بها ألمنظمات الدولية المعنية بالإغاثة والتي كانت شاهدة العيان المستقلة الوحيدة في مكان ارتكاب الجريمة مرات ومرات.

شهادات كان من شأنها لو قدمت في وقتها أن تسهم في الدفع نحو إيقاف المجازر وفرض حل عادل يستجيب لتضحيات الشعب السوري. ولم يكن صعباً أن يرصد المراقبون كيف استغل النظام خوف وهلع المنظمات الدولية على سمعة حيادها فأمعن في جرائمه تحت بصرها ووصل به الاستخفاف بها لحد ابتزازها وحرفها عن مسارها.

في أسس العدالة، السكوت عن الجريمة وإدارة الظهر لها بأية حجة كانت هو جريمة تطال الأفراد الذين اختاروا السكوت والمؤسسات التي أرغمتهم عليه. المطلوب مراجعة صادقة لوجاهة هذا المبدأ من الناحيتين الأخلاقية والقانونية، ولعل البداية تكون في إجراء تحقيق شفاف وشامل وموضوعي عن أثر السكوت بحجة الحياد سلباً أو إيجاباً على مصير الذين ادعت منظمات الأمم المتحدة أنها آثرت الصمت على ما ارتكب بحقهم من جرائم وانتهاكات من أجلهم.

أدعي وغيري كثر أنه فيما يخص مأساة سورية بشكل خاص وقبلها ما حصل في فلسطين والبوسنة وراوندا، تسبب التمسك بادعاء الحياد والتذرع به بإصابة مصداقية منظمات الإغاثة في الأمم المتحدة بضرر جسيم قد يصعب عليها التعافي منه.

في إحدى زياراتي لمخيم للاجئين السوريين في تركيا سألتني أرملة قتل ضابط رفيع في النظام زوجها وولدها أمام عينيها عما إذا كنت أظن أن شيئاً من الطعام والمأوى تقدمه الأمم المتحدة هو كل ما يمكن أن تفعله للحق والعدالة، ولم تسعفني عشرون سنة قضيتها في الأمم المتحدة في إجابة صادقة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.