شعار قسم مدونات

تلدنا الحياة أكثر من مرة

blogs - human

خلقنا الاستثناء في هذا الوطن وزغردنا في جنازات الراحلين، رفعنا صوت الفرح فوق نعوشهم، نزغرد ونشيعهم معلنين الانتصار، ولنواري غصة أسى الرحيل نخلق لحظة مختطفة نحتفل فيها ونخبر فقيدنا بصوت يزرع اليقين نحن بخير فكن أنت أيضا كذلك.

في كل رحيل نقف جاثمين لا ننبس بحرف، نزم غصة قلوب تودع حبيب ونضبط رعشة يدين خانتها يد رفيق، وما أن نعتاد نقول رحمات الله على الغائبين، وحين يشتد بنا الحنين نعود مرة أخرى للوقوف على أشهادهم، نصِّرُ كل ما جرى منذ أن غابوا في منديل نمد الكف لنقول لهم هذا ما حدث، هو الوصل حتى وإن رفضناه.

ماذا يحدث عندما يخذلنا الراحلون؟ ماذا يحدث عندما نقف في منتصف الطريق نتذكرهم ونعود نبحث عنا وعنهم؟ ماذا يحدث عندما ننسى ونتناسى موتهم؟ نبحث فلا نجد غير سراب نتبعه طواعية، بعدها نقرر الوقوف على الأعراف حائرين، هل نُقبل على الجنة ونعيمها أم نسقط في جهنم مدركين شدة حرها.

يترك الراحلون وجع لا طاقة لنا به، وجع كريح لا تمر على أرض دون أن تغير معالمها، وكلما كان الريح قويا كلما كانت الخسارة كبيرة.

بعد كل رحيل نقف واهنين نستفيق من ليلة طالت وكأنها أبد، نرثي من توقف قلبهم دون إنذار، من داع المرض في داخله، من وهن عظمه وضعف أزره، نرثي الراحلين دون وداع، نخيط دروب جديدة في الطريق، نشعر بطعم الخسارة والفقدان ونبدأ مرة أخرى من جديد.

ولأن أصعب الأشياء في الحياة هي البدايات نحاول صنع بداية غير رتيبة، لكن هل تعود معها الأمور إلى ما كانت عليه وكيف نعيدها؟ كيف نركب عجلة الحياة ثانية وبلا جلبة؟ حقيقي يلزمنا قلوب أكبر تتسع لوجع الفراق.

يترك الراحلون وجع لا طاقة لنا به، وجع كريح لا تمر على أرض دون أن تغير معالمها، وكلما كان الريح قويا كلما كانت الخسارة كبيرة، وكم من ريح اقتلعت زرع بساتين جنان، وردمت تضاريس وشيدت مكانها أخرى.

بعد كل رحيل وقبله حكايات يجب أن تروى، يحق لنا الافتخار بها، أحببناهم قيد حياتهم، يحق لنا البكاء وقت الوداع، ويحق لنا أن نقف على جنازاتهم الدافئة نُقبل حلمنا المعلق على ناصيتهم، نكفكف قناة الدمع ونبدأ من جديد.

كلما كتبت عن الرحيل تذكرت قصيدة شاعر العصر الأيوبي بهاء الدين زهير "نهاك عنِ الغواية ما نهاكا" والتي قال فيها:
أراكَ هجرتني هجراً طويلاً
وَما عَوّدْتَني منْ قَبلُ ذاكَا
عَهِدْتُكَ لا تُطيقُ الصّبرَ عني
وَتَعصي في وَدادِي مَنْ نَهاكَا
فكَيفَ تَغَيّرَتْ تِلكَ السّجايَا
وَمَن هذا الذي عني ثَنَاكَا
يعزّ عليّ حينَ أديرُ عيني
أفتشُ في مكانكَ لا أراكا
لقد عجلتْ عليكَ يدُ المنايا
وما استوفيتَ حظك من صباكا
فيا قبرَ الحبيبِ وددتُ أني
حملتُ ولوْ على عيني ثراكا

قبل الرحيل وبعده ولادة من الخاصرة حسناً لنسمه ميلاد جديد. ميلاد يحكمه الأمل، فبعد كل رحيل تصر الحياة أن تلدنا من جديد، تهدهدنا كالرضيع تربت على كتفه وتمرر راحتيها على وجنتيه، وما إن يصلب ذاك الولد الصغير طوله نعيد الكرة ونزغرد مرة أخرى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.