بعد أن تمكنت القوات العراقية من السيطرة رويداً رويدا على الأراضي التي استولى تنظيم داعش عليها والذي سرق الأخير جهد الاحتجاجات السلمية التي خرجت في عموم المحافظات السنية، مطالبين بتصحيح مسار حكومة المالكي الثانية التي اعتمد فيها على الإقصاء والتهميش ولغة التهديد والوعيد ضد كل من يختلف معه سياسياً ومذهبياً وقومياً، وبعد كل هذا التخبط والفوضى التي يعيشها العراق طرح التحالف الوطني الحاكم مشروع "التسوية التاريخية"، في محاولة لمحو أخطاء المالكي وسياساته التي ما أنزل الله بها من سلطان، لحل جميع مشاكل العراق السياسية والأمنية بعد الانتهاء من مرحلة تنظيم داعش.
التسوية التاريخية أسم كبير لكنه يخلو من المضمون الصادق والتخطيط الاستراتيجي الصحيح بدليل تم تصدع أركانه في بداية الحديث عنه، "حيث دخلت التسوية التاريخية غرفة الإنعاش قبل ولادتها بعد إصابتها بجلطة دماغية مفاجئة بسبب إقرار قانون الحشد الشعبي".
العراق بحاجة ماسة إلى وثيقة شراكة حقيقية، وليست صورة شكلية، وهذه الوثيقة يجب أن تصدر من طرفي النزاع، "لكل طرف وثيقة مستقلة" وليس من طرف واحد.. |
على مر العصور والتاريخ فإن البلدان التي عانت من الحروب الطائفية لم نسمع يوماً ما عن نجاح التسويات التاريخية فيها، بعكس التسويات الجغرافية وما حصل في السودان يؤكد ذلك.
عدم نجاح التسوية التاريخية في العراق يعود إلى افتقادنا إلى الساسة الكبار ذوي القرار المستقل الغير خاضع إلى أجندات وأطماع دول الجوار العراقي، وهذا ما ينذر بخطر كارثي أعظم من مشكلة ما بعد داعش، بل هو كابوس ما بعد التسوية التاريخية، وهذا الكابوس الطويل سيتخذ من تفتيت خارطة العراق الجغرافية صحوة له.
إن أبرز ما تضمنته وثيقة التسوية التاريخية هو رفض الحكم الدكتاتوري والتفرد بصنع القرار والالتزام بمحاربة الإرهاب، وإدانة سياسات البعث، إن جميع هذه الركائز التي استندت عليها الوثيقة متفقٌ عليها من جميع أبناء الشعب العراق من الشمال إلى الجنوب مروراً بالغرب والشرق.
العراق بحاجة ماسة إلى وثيقة شراكة حقيقية، وليست صورة شكلية، وهذه الوثيقة يجب أن تصدر من طرفي النزاع، "لكل طرف وثيقة مستقلة" وليس من طرف واحد ويتم الجمع بين الوثيقتين ومن ثم إيجاد نقاط مشتركة برعاية أممية وضمانات دولية، ولم يتم نجاح أي وثيقة تسوية في العراق ما لم يتم تعديل وحذف وإضافة فقرات في الدستور العراقي الحالي الذي كُتب بدعم ورعاية أمريكية ومباركة إيرانية، وأن يطبق مبدأ التنازل المتبادل لكلا الطرفين من أجل طمأنة جميع الأطراف والابتعاد عن سياسة ليّ الأذرع وفرض سياسة الخطوط الحمراء.
طريقة طرح وثيقة التسوية التاريخية المرتقبة لا تختلف عن عشرات المبادرات والاتفاقيات التي طرحت منذ عام 2003 إلى يومنا هذا، المشكلة الأساس في العراق ليست بطرح الوثائق أو الاتفاقيات والمعاهدات، بل يكمن النجاح في وجود أرضية مهيئة ونية صادقة وإرادة سياسية حقيقية تصب في مصلحة العراق أرضاً وشعباً دون المصالح الحزبية والطائفية والقومية.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.