شعار قسم مدونات

كيف تظل روسيا بدون مصاعب اقتصادية

Blogs - Russian Currency

تمثل الاستدامة طويلة المدى للاقتصاد الروسي سؤالا مفتوحا. فالمحسوبية منتشرة واعتماد روسيا الكبير على عائدات النفط يعني أنها ستعاني عندما تنخفض أسعار النفط. لكن إذا كنا قد تعلمنا شيئا من الاتحاد السوفيتي فهو أن الأنظمة غير المستدامة يمكنها أن تبقى لسنوات عديدة.

 

ويذكرني النظام الروسي الحالي بالنظام السوفيتي الذي شهدته في سنة 1983 عندما عشت في موسكو وعندما كان رئيس المخابرات السوفيتية المتشدد يوري أندروبوف (جزار بوخارست) ما يزال في السلطة (وإن كان في حالة صحية سيئة) وكانت الظروف الاقتصادية المشتركة الآن وحينئذ تشتمل على انخفاض أسعار النفط والأيديولوجية الاقتصادية غير القابلة للحياة وملكية الدولة للصناعات الحيوية والحكم الاستبدادي.

 

تشتمل الاحتياطيات الروسية من العملات الأجنبية المبالغ الموجودة في صندوق الاحتياطي التابع لوزارة المالية الذي ستنفد مدخراته في 2017.

لكن ثمة اختلاف واضح هو أن إدارة الاقتصاد الكلي الروسي أكثر كفاءة الآن مما كانت عليه في تلك الإيام بكثير فروسيا بمنأى عن خطر نفاد التمويل على الرغم من العقوبات الغربية المستمرة لكن مواردها المحدودة تحد من خيارات الكرملين في السياسة الخارجية وتؤدي إلى تفاقم التوترات بين النخب الروسية.

 

ومنذ بدأت أسعار النفط في التراجع في يونيو 2014، تراجعت روسيا من المركز السادس إلى المركز الرابع عشر في التصنيفات الاقتصادية العالمية لصندوق النقد الدولي كما تراجع ناتجها المحلي الإجمالي (الذي يقاس بالدولار الأمريكي) من 2,1 تريليون دولار إلى 1,1 تريليون دولار -أي ستة بالمئة فقط من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي. (وأنفقت 8 بالمئة فقط مما تنفقه الولايات المتحدة الأمريكية على الدفاع.)

 

لكن على الرغم من أن روسيا ليست منافسا اقتصاديا للولايات المتحدة فإن حكومتها حافظت على توازنات مثيرة للإعجاب في الاقتصاد الكلي حتى على الرغم من تلاشي احتمالات النمو. وقد استغرقت الحكومة الروسية بعض الوقت لتضع الأمور في نصابها السليم وتراجعت احتياطاتها الدولية بصورة خطيرة في 2014، لكن في ديسمبر من تلك السنة قام البنك المركزي الروسي أخيرا بتعويم سعر صرف الروبل واستقرت أحوال الاقتصاد الكلي منذ ذلك الحين.

 

وأكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تصريحاته العامة على خمسة مؤشرات للاستقرار هي الاحتياطيات من العملات الأجنبية وميزان المدفوعات الخارجية وتوازن الميزانية والتضخم ومعدل البطالة. ومن بين هذه الخمسة مؤشرات يولي بوتين أهمية قصوى للاحتياطات من العملات الاجنبية ففي منتدى الاستثمار السنوي الذي يقام تحت اسم "روسيا تنادي" في أكتوبر قال بوتين إن "الاحتياطات من العملات الأجنبية تنمو" و"تبلغ حاليا حوالي 400 مليار دولار" والذي يبدو أنه المبلغ المستهدف بالنسبة له.

قد اتبع بوتين النصيحة التي أوصى بها الوزير الامبراطوري الروسي فيتشيسلاف فون بليفي في 1904 حين قال "نحتاج إلى حرب صغيرة ننتصر فيها." وقد استفاد بوتين من ثلاثة حروب حتى الآن.

 

وتشتمل الاحتياطيات الروسية من العملات الأجنبية المبالغ الموجودة في صندوق الاحتياطي التابع لوزارة المالية الذي ستنفد مدخراته في 2017. لكن بالنسبة لبوتين، فإن ما يهم هو إجمالي الاحتياطات الروسية من العملات الأجنبية وعن طريق تعويم سعر الصرف مع أسعار النفط فإن البنك المركزي الروسي استطاع الحفاظ على فائض كبير في الحساب الجاري حتى على الرغم من أن خفض أسعار السلع أدى إلى خفض الصادرات والواردات بمقدار النصف منذ 2013.

 

وبالمثل، فإن وزارة المالية تحافظ على العجز في الميزانية عند حوالي 3 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي وحافظ تراجع سعر الصرف على العائدات ثابتة نسبيا فيما يتعلق بالروبل حتى على الرغم من تراجع الإيرادات النهائية كما قامت الحكومة بتعويض العجز في الميزانية عن طريق الخفض الحاد في التعليم والرعاية الصحية والآن في الرواتب التقاعدية.

 

وعندما انخفضت قيمة الروبل في وقت مبكر من العام الماضي، تجاوز التضخم 16 بالمئة لكن السياسة النقدية الصارمة التي فرضها البنك المركزي الروسي خفضت التضخم من ذلك الحين إلى 6 بالمئة مع هبوط إضافي يصل إلى 4 بالمئة من المرجح أن يتم تحقيقه العام القادم ومن اللافت للنظر أن معدل البطالة حاليا نسبته 5,4 بالمئة واستطاعت روسيا أن تحافظ عليه عند أقل من 6 بالمئة منذ الصدمة التي شهدتها أسعار النفط، والأكثر من ذلك أن نسبة الدين العام 13 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي هي نسبة قليلة جدا.

 

وعلى الرغم من هذه المؤشرات الإيجابية فإن الاستثمار الإجمالي والناتج المحلي الإجمالي ومستويات المعيشة تشهد تراجعاً وقد تراجع الدخل الحقيقي القابل للتصرف فيه بنسبة 10 بالمئة العام الماضي ومن المرجح أن ينكمش بنسبة إضافية من 5 إلى 6 بالمئة هذا العام، وتراجع الاستثمار أكثر من 8 بالمئة العام الماضي ومن المرجح أن يتراجع بنسبة 4 بالمئة هذا العام كما انخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3,7 بالمئة في 2015 ومن المحتمل أن ينكمش هذا العام أيضا بنسبة أقل من 1 بالمئة.

 

إن أي شخص غربي قد يعتبر هذه الأرقام غير مقبولة لكن الروس العاديين ممتنون بسبب تضاعف دخولهم الحقيقية (معدلة وفقا للتضخم) بين عامي 1999 و2008. وعلى أي حال ليس باستطاعاتهم أن يقوموا باحتجاجات تحت ظل النظام الحالي.

 

ومازال بوتين يبني شرعيته على النمو الاقتصادي والآن وبعد أن أصبح غير قادر على تقديم معايير معيشة أفضل، فقد اتبع النصيحة التي أوصى بها الوزير الامبراطوري الروسي فيتشيسلاف فون بليفي في 1904 حين قال "نحتاج إلى حرب صغيرة ننتصر فيها." وقد استفاد بوتين من ثلاثة حروب حتى الآن الأولى في 2008 في جورجيا والثانية في 2014 عندما ضم شبه جزيرة القرم أما الثالثة فهي التدخل المتواصل في سوريا منذ 2015.

 

لكن بوتين الذي كان يتجنب المخاطر في السابق أصبح يخوض في مخاطر أكبر وليس فقط في شرق أوكرانيا حيث لم يكن الصراع الذي انخرط فيه صغيرا ولم يفز فيه ويمثل شرق أوكرانيا فشل في السياسة الخارجية ويظهر أنه في حين أن روسيا تستمع بتفوق عسكري على جيرانها فإنها لا يمكنها تحمل حروب طويلة الأمد. وقد استغل الغرب هذا الضعف بعقوباته المالية التي تلتهم 1 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي الروسي في كل عام يستمر فرضها فيه.

 

وتمثل النخب المحلية في روسيا تهديدا آخر على بوتين وهي السبب وراء فصل بوتين لجنرالات من الكي.جي.بي واحدا تلو الآخر منذ أغسطس 2014 وسعيه إلى القضاء على خصومه المحتملين. لكن تطهيره توقف مع استمرار تمثيل الجنرالات الروس بأغلبية في "مجلس الأمن الروسي" والذي يعد المكتب السياسي "الحقيقي" للبلاد.

 

وفي نوفمبر 2015، وجه بوتين تطهيره في اتجاه جديد بإلقاء القبض على وزير التنمية الاقتصادية الروسي ألكسي أوليوكاييف وهو أحد التكنوقراط الليبراليين الباقيين. وفي اليوم التالي عندما ألقى بوتين خطابا تلفزيونيا معدا أمام وزارة الدفاع نظر الجنرالات الحضور إليه باشمئزاز واضح وكان باديا أن وزير الدفاع القوي سيرجي شويجو تجاهله تماما.

 

إن بوتين ذكي سياسيا وغالبا ما يخفي نواياه الحقيقية. وكثيرا ما يفاجئ العالم بحروب ومبادرات دبلوماسية مرتجلة كما حدث مع أوكرانيا وسوريا. إنه مقيد ماليا لكن موقفه ليس ميؤوسا منه ويجب أن نتوقع دائما ما هو غير متوقع منه. والآن ومع الفراغ السياسي الذي تشهده واشنطن والذي أحدثه فوز الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترمب، توجد فرصة عظيمة امام بوتين لتعزيز مكانته المحلية ويمكن أن نكون متأكدين من أنه سيسعى إلى استغلال ذلك بأقصى درجة ممكنة.

 

____________________________________

المصدر: بروجيكت سنديكت 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.