شعار قسم مدونات

عظمة السياسة وبؤس السياسيين

blogs - Security Council
كثيرا ما قرأت وسمعت عن موت السياسة، لكني لم أر جثة ولا أجد قبرا، وقد يكون الموت هنا مجازيا، أو تعبيرا عن سخط ما من أداء وأسلوب السياسيين، لكن السياسة مازلت قائمة بيننا حية ترزق، وأكاد أقولها أننا وبفضلها مازلنا على قيد الحياة. ومازلنا نحلم بذاك الشيء المسمى ديمقراطية.
 

وهناك نوعان من الذين بشروا بموت السياسة، في الصنف الأول يندرج أولئك الذين ظلوا يمقتونها على الدوام، إنها النقيض التام لمشروعهم ورأسمالهم الرمزي، منذ زمن بعيد والتقنقراطية تخوض صراعها الأزلي مع السياسة، وعادة ما تعلن هزمها وإرسالها إلى هناك حيث جثت ما أنتجته البشرية من أشياء متقادمة، ظلت التقنقراطية ترى دائما أنها لا يمكن أن تبني سلطتها إلا على أنقاض السياسة والسياسيين.

لقد وسعت السياسة من مجالاتها كي تعيش من جديد، في نقاشات المساواة في الإرث، والحريات الفردية، وحقوق الأقليات والوقف الإرادي للحمل غير المرغوب فيه.

وحدث في تاريخنا العربي والإسلامي ذالك الزواج العرفي بين التقنقراطية والاستبداد، ظل الحكام بدورهم يمقتون السياسة ومن يقف وراءها، إنها بالنسبة إليهم المخدر الذي يحرض على كراهية الأنظمة ويعطل التنمية، وهي تعطي الرعاع والرعايا سلطة المشاركة فيما لا يفهمونه أو يفقهون فيه، لقد بدت السياسة بالنسبة إليهم ومن هذه الزاوية جريمة جنائية، وبتهمة التسييس سيق العشرات إلى قبورهم وزنازنهم، كان التقتقنراطي الرجل المفضل لدى الحاكم المستبد، إنه نموذج مثالي بالنسبة إليه، مطيع خنوع، يبيع الأهام اللذيذة في سمها، والحاكم يراها مهدئات أفضل من ضجيج السياسة والسياسيين.

والأكثر تسييسا يعلون موت السياسة حين لا يرضون عن أدائها، يمكن مثلا في حالة انحطاط أسلوب السياسين أن يعلنوا موتها، وحتى إن قاطع الناخبون صناديق الاقتراع كان ذلك موتا للسياسة، وحين تمارس السياسة بخبث يقولون أيضا إن السياسة ماتت، إنهم يرونها نبلا وقيما، مردودية ونتائج، وفيما عدا ذلك، تكون قد ماتت وربما تحللت.

وليست التقنراطية وحدها من أضر بالسياسة ونشر حولها إشاعات الموت، حتى العقيدة الأصولية الدينية تكالبت على السياسة، وكما يرى ذلك الباحث المغربي عزيز الحدادي في كتابه «نهاية الفكر العربي ومولدُ السياسة المقدسة" فإن "المزج بين السياسة والعقيدة عطّل بناء السياسة المدينية في العالم العربي"، وأدى إلى نشوء "براديغم عنيف يستند على بنية المقدس بغية تحريم الحوار والاختلاف والنقد، لأنه لا أحد بإمكانه أن يناقش هذه السلطة التي تواجه الناس بالشريعة. وإذا افترضنا أنه تجرأ على انتقاد طغيان هذه السلطة، فسيُتهم بالكفر والإلحاد، ثم يُقتل".

وقد جعلت التقنقراطية والعقيدة من السياسة نقيض ماهيتها وهويتها، يعرفها كثيرون بأنها "فن الممكن"، وفي تفصيل أكثر دقة، يقول عنها "دافيد إيستون" إنها المجال الحيوي للاختيار التعسفي، حيث تتعدد الخيارات ويصعب اختيار أي منها، وعلى السياسي أن يجازف بالرهان على واحد فقط وتحمل مسوؤليته، فالسياسة والحالة هذه هي مجال التعدد والاختلاف ، وفي المقابل فإن التقنقراطية والعقيدة هي الميدان الطبيعي للخيار الأوحد والحقيقة المطلقة، وربما وبسبب هذا الاختلاف الجوهري بالذات، وبإيعاز من تلك الحساسية المفرطة تجاه الاختلاف وتدبيره، تشعر العقيدة والتقنقراطية بكثير من الضجر والحساسية تجاه السياسة والسياسيين.

وأظن شخصيا أن السياسة لم تمت، على العكس من ذلك، توسعت مجالاتها وتمددت موضوعاتها، يمكن أن يكون السياسيين فاشلين هنا أو هناك، ويمكن للحكومات السياسية أن تكون فشلت في مضمار تدبير المعيش اليومي، لكن السياسة تربح يوما بعد آخر مجالات جديدة لم تكن مفتوحة أمامها في السابق.

كان ل "الربيع العربي" الفضل في استعادة السياسة لأمجادها، منذ خمس سنوات ونحن نناقش قضايا السلطة التي هي في الجوهر التأسيسي لمفهوم السياسة، في بلداننا العربية نعيد تقليب أفكار الدستور وتوزيع السلط وحدود مشاركة المواطنين في القرار السياسي، واستعدنا تلك النقاشات القديمة حول الحكومات الشرعية وسلط صنايق الاقتراع وإعادة صياغة مفهوم سيادة الأمة ودور الأحزاب السياسية والهيئات المدنية، وبعيدا عن القضايا المسطرية، ارتقينا في سلم الفلسفة السياسية في نقاش الاستبداد والتحكم والثورة والقوى المضادة لها..

وفي البلدان التي تجاوزت نسبيا هذه الإشكاليات، أوجدت السياسة ترتبها الخصبة كي لا تنقرض مع تبدد موضوعاتها الكلاسيكية، لقد وسعت من مجالاتها كي تعيش من جديد، في نقاشات المساواة في الإرث، والحريات الفردية، وحقوق الأقليات والوقف الإرادي للحمل غير المرغوب فيه …، تفجرت قضايا خلافية كبرى، ومن جديد استدعيت السياسة إلى قاعة المنازعات كي تمارس سلطتها في الوساطة والتحكيم.

وأكاد أجزم أنتا مدينون للسياسة في خلق أجواء التعبئة حول مفهوم الدولة ومفهوم الوطن، ومدينون لها أيضا في تدبير تناقضاتنا الحادة والتي لولا تسييسها لكنا مثل "تنظيم الدولة" الإرهابي حيث تحكم وحشية الفقه وأوهام الشريعة بدل نسبية السياسة وحقائقها.

في أواخر القرن الماضي أعلن "فرانسيس فوكوياما" مقولة "نهاية التاريخ"، كان منتشيا بانهيار الاشتراكية وهو يبشر بجنان الخلد الديمقراطي في أحضان المجتمعات الليبرالية، لكن الليبرالية أصابها غرور الإنتصار، ومن أحشائها خرج اليمين المتطرف، وتولدت من سياساتها كل أشكال التطرف الإسلامي، لا الاشتراكية انهزمت ولا الرأسمالية انتصرت، وحدها دموية الأفكار ورجعيتها عادت إلى ساحة الإنتاجات البشرية الأكثر رداءة.

ليست مشكلتنا في السياسة، السياسة أمطرتنا بخيراتها وتسوياتها دون كل أو ملل، عطبنا الأساس في هزل نخبتها السياسية، في فقرها الفكري وافتقادها للخيال.

وفي عالمنا العربي الإسلامي، لا نملك إيديولوجيا مضادة، طروحاتنا القومية والاشتراكية وقفت عند جدارات هزيمة 1967 ثم تحللت فوق انهيارات جدار برلين، وأصحاب النظرية اليبرالية بيننا عاجزون لأنهم أصحاب مصالح فقط وليسوا حاملي عقيدة. ونحن نقف وجها لوجه أمام جبروت الإرهاب الدموي، ولا نجد في المواجهة، عدا مخابراتنا وشرطتنا ودباباتنا المتهالكة، سوى سلاح السياسة، وبالسياسة وحدها -وهي سلاحنا الوحيد- ندير حتى الآن أزمة هذه الهويات المنغلقة التي تريد حشرنا في ذاك الزمن البعيد ، حيث يمسك الفقيه الدموي بسلطته المطلقة فوق رقبة السياسة والسياسيين.

ولأننا لسنا أصحاب تقاليد ديمقراطية عريقة أو ناضجة على الأقل، فقد احتمينا بالسياسة ونحن ندير اختلافاتنا الأكثر تقسيما لوحدتنا الوطنية، قليلا ما نلجأ للاستفتاءات وصناديق الإقتراع لحسم انقساماتنا الداخلية الحادة، وكأننا نعلم أن ذلك لن يريد إلا من تأجيجها وتفجيرها في وجوهنا جميعا، لذلك نفضل إبرام الصفقات، وتقديم التنازلات المتبادلة كي نتوصل إلى توافقات تحفظ ماء وجه الأقلية ولا تشعر الأغلبية بأنها تنازلت أكثر مما تشتهي.

ليست مشكلتنا في السياسة، السياسة أمطرتنا بخيراتها وتسوياتها دون كل أو ملل، عطبنا الأساس في هزل نخبتها السياسية، في فقرها الفكري وافتقادها للخيال، في انطفاء جدوة المصلحة العامة لديها مقابل تفضيلها لحسابات عائدات الجماعة والحزب والشخص، السياسيون عالة على السياسة، أما السياسة، فهي حتى الآن تلك السيدة التي ماتزال تغمرنا بعطفها، حتى وإن كنا نمرغ كرامتها في التراب. أو لنقل باختصار شديد، إن السياسة مملكة عظيمة، لكن، ومن حولها أمراء فاشلون، ليسوا في مستوى أمجادها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.