شعار قسم مدونات

الإله الذي مات عاريا

blogs - chess
بين الوجود والزمان تضاد عميق، فالزمان يتقلب، ومعه يتغير كل موجود. لكن التغير فناء، فعندما يتغير الشيء من حال إلى حال، يكون في الحقيقة قد فنى الشيء القديم ووجد شيء جديد نتيجة هذا التغير. إن الوجود الحق لذلك لا يمكن أن يتغير لأنه إذا تغير زال، وما يزول ويفنى لا يكون وجودا حقيقيا بل زائفا. فاللذة التي نجربها للحظة ثم تزول، أو الألم الذي يكون للحظة ثم يزول، ولا يبقى لهما أثر -بل ربما كان ما بعد كل منهما ضده، أي أن يكون بعد تلك اللذة ألم، أو بعد ذلك الألم لذة- لا معنى لهما.

يدرك الإنسان تلك الحقيقة كلما مر به الزمن والتفت إلى ماضيه الذي طواه النسيان، ولم تبق منه سوى ذكريات غامضة كومضات ضبابية. غير أن تلك الذات الواحدة الصامدة على مر الزمن التي نتخيلها لأنفسنا، وكأن أحدنا في كهولته هو هو ذلك الطفل أو المراهق أو الشاب الذي كان قبل ثلاثين عاما، أو حتى عشرة أعوام فحسب، يتصرف برعونة مفرطة، تمنحنا التماسك الذي نبديه حيال الزمن. لكن هذا التماسك ينهار بأسره أمام الموت؛ ذلك الموقف الحدي لوجود الإنسان كما يقول الفيلسوف الألماني كارل ياسبرز، الذي لا يجد الإنسان وراءه سوى العدم.

رأى "جلال" كل قيم العالم زائفة، واحتقر الضعفاء، تماما كوحوش نيتشه الضارية، إنهم يخافون، لأنهم لا يفكرون في الموت.

في الحكاية السابعة من حكايا الحرافيش، يقدم نجيب محفوظ تجربة جلال صاحب الجلالة إزاء الموت، التي تلخص فيها حكاية الإنسان. كان جلال ابنا لامرأة ذات جمال برّاق، وحياة ممتلئة بالتجربة والطموح. الصبي الصغير تتفتح عينه على جمال أمه وقد تحول بضربة من طليقها الطائش إلى عظام محطمة غارقة في بركة من الدماء. وهكذا يتحول جلال من الابن المدلل لأم قوية وجميلة وثرية، إلى طفل ضائع لأب وضيع هو عبد ربه الفران، وسمعة أمه الملطخة تلاحقه. هكذا دخل الصبي منذ طفولته في صراع مضن مع الموت.

يقع جلال منذ الطفولة في حب ابنة زوج أمه، قمر، وعلى الرغم من كل العقبات، سمعة أمه، وضاعة أبيه، حقد حماه (والدة حبيبته) على ضرتها الراحلة، تسعده الأقدار، وربما كانت توقع به، بخطبة قمر التي أحبته بالقدر نفسه. لكن الموت يعود ليكشف له حقيقة وجوده مرة أخرى، عندما يسرق منه عروسه الجميلة قبيل العرس. وفي مشهد بديع، يصور محفوظ وعي جلال بالموت أمام جثة حبيبته "رنا إلى الجثة المسجاة طويلا. طوى الغطاء عن الوجه. إنه ذكرى لا حقيقة. موجود وغير موجود. ساكن بعيد منفصل عنه ببعد لا يمكن أن يقطع. غريب كل الغرابة، ينكر ببرود أي معرفة له. متعال متعلق بالغيب. غائص في المجهول…"

الموت، أو العدم إذ يبتلع كل شيء حتى الذكرى، ومعنى ما كان. لكن جلال، صاحب الجلالة، كان ممسكا بتلابيب اسمه الذي اختاره له القدر، ولنقل محفوظ بعناية. ذلك التمثال المنتصب، ذو الوجه الصبوح كأنه شمس مشرقة كوجه أمه، وعضلات مفتولة، كأنه إله أو نصف إله، يخلب الأنظار، تحيط به هالة الجلالة تامة غير منقوصة، يقرر أن يتحدى الموت، عدوه الذي سلبه كل شيء. وفي لحظة، يعترف لنفسه بأنه يكره قمر، لأنها كانت هي أيضا ضعيفة واستسلمت لذلك الوحش الذي عبده الناس فجعلوه حقيقة نهائية؛ أما هو فقد قرر الخلود.

يتحرك جلال باحثا عن الخلود بأي ثمن، ويقنع نفسه بأنه قادر على هزيمة الموت إن أراد. للحظة، لا تملك إلا أن تتعاطف مع جلال؛ تراجيدياه المأساوية تلخص قصة الإنسان كلها؛ ابن الإله الذي ألقي به في عالم زائف يعده بالفناء، فيقرر أن يقاتله وحده ليحوذ الخلود. إنها إنسانية "إرادة القوة" أو "مفارقة نيتشه" المأساوية التي يسقط أمامها ذلك الإله التائه الباحث عن الخلود، الأبدية، التعالي، القوة.

يطيح جلال بالفتوة سمكة العلاج، ضربة واحدة من الساعد الإلهي كانت كفيلة بطرح الفتوة التافه. وكما تخيل قمر في قبرها ذات مرة "قربة منتفخة تفوح منها روائح عفنة"، فكشف له الفناء عن زيف الجمال، رأى جلال كل قيم العالم زائفة، واحتقر الضعفاء، تماما كوحوش نيتشه الضارية، إنهم يخافون، لأنهم لا يفكرون في الموت، وهكذا لم يكن كجده عاشور الناجي كما حلم به الحرافيش.

إن كثيرا من أزمات الإنسان مع هذا العالم تكمن في طموح الألوهية الذي يسكنه.

لم ينسَ جلال يوما حلم الأبدية، وظل يطارد حتى الدجالين إخوة الجن. ويعده شاور بالخلود لقاء تنفيذ وصفته السحرية؛ مئذنة شاهقة يبنيها في الحارة، كانت بلا جامع، بلا وظيفة، ضرب آخر من الجلالة التي تتحدى الزمن. وعام كامل من العزلة.

كان شاور على ما يبدو يريد أن يبعد جلال عن تقلبات الأيام؛ تلك التي تذكر الموت، فيظن أنه يحيا حقا في الأبدية. لكنه ما إن يغادر حلمه، حتى يعود إلى أحضان عشيقته العاهرة زينات، التي تضع له السم، فيخرج جلال عاريا باحثا عن النجاة والخلود لائذا بمئذنته الصماء عديمة المعنى ككل شيء، ولكن الإله الباحث عن الخلود يسقط عاريا على عتبة المئذنة.

إن كثيرا من أزمات الإنسان مع هذا العالم تكمن في طموح الألوهية الذي يسكنه كما سكن جلال، والحقيقة الواحدة الكفيلة بتخليصه من كل أوهامه، من طموحه إلى عالم مثالي يبنيه، أو القوة التي يملك بها العالم، أو المعرفة المحيطة بالحقيقة المطلقة، أو الجمال الذي يفتنه، هي أنه ليس إلها. إنها الصدمة التي لم تزل تعصف بالإنسان ويعجز عن أن يعترف بها؛ أنه ليس إلها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.