شعار قسم مدونات

ميلاد الذات

BLOGS - ph
جاء في صحف "يوحنا" أن "نيقوديموس" كان يصغي للمسيح وهو يقول له "الحق الحق أقول لك، إن أحداً لا يولد ثانية لا يقدر على أن يرى ملكوت الله"، وقصد به ميلاد الوعي بالروح، والتحقق بالأفكار المقدسة والتصديق بمنظومة الغيب.

والوعي بالروح هو جزء من إدراك مكنون وجودي داخل الإنسان، وهو أن هناك جزء مفارق للمادة في الانسان، يجعلنا ننفعل مع الأناشيد المقدسة والأغنيات الرائعة، ولكن هناك مستوى أعلى من هذا الوعي، هو الوعي الكلي بالذات التي "تفعل" و "تنفعل"، "تؤمن" و "تكذب"، "تقبل" و"ترفض"، لأن هذا سينقل المرتكز الأساسي من الأفكار كونها قائمة بأنها هكذا في عالم الأفكار، للذات مركز الحس والتصور والفكر والتي تمارس "حراك فكري داخلي" تتوصل به لهذه الأفكار؛ قد يبدو هذا الحديث بديهي بالفعل للكثير، لكن علمتنا الفلسفة أن أكثر الأشياء ادهاشا هي البديهيات نفسها.
 

الحدس نفسه من صميم الفكر، وهو يتولد من حقائق حسية أولية أو تصورات عقلية أولية أو رتابة في النظر والتأمل مما يجعل الإنسان يخفق أحيانا في الوعي بذاته وعقله.

هل كان ليكون هناك شيء اسمه "الحقيقة"، "الشك"، "الاحتمالات"، "التصديق"، "اليقين"، "الايمان" لو تخيلنا هذا الوجود نفسه بأكوانه وفضاءاته وسماواته وأرضه بدون الانسان؟ بالطبع يمكن أن نتخيل وجود الواقع كما هو، لكن ماذا تعني فكرة "الحقيقة" أو مطابقة الواقع؟ لا تعني شيء بدون الذات المفكرة التي تقوم بالفعل الفكري نفسه "المطابقة"، "التصديق"، "الايمان"، "الشك"!

الفكر نفسه كنشاط إنساني يعني أن هناك كينونة معينة في الانسان تمارس دورها وتتحرك في فضاء خاص بها، وتجدف في اتجاهات مختلفة، وهذا لا يتأتى إلا بأن يكون الفكر هو خلق علاقة بين الأفكار وربطها وفصلها بل وخلق الأفكار نفسها، أي أن هناك ذات مفكرة هي التي تنتج الفكر.

كان هذا الوجود ليكون صامتاً وهادئاً لا أصوات للفكر فيه لو أن الانسان لم يوجد به، لأن الأفكار ليست هي الواقع، والمعرفة ليست الوجود، إنما هما "الأفكار والمعرفة "انطباع صورة الواقع في الذهن أو العقل، وهذا الانطباع لا يحصل من تلقاء نفسه إنما من جراء فعل الفكر، وهو عين خصيصة الذات المفكرة، إن ميلاد الذات هو الوعي بهذا القانون الفلسفي.

ميلاد الفكر هو ميلاد الوعي بالذات، وهذا لأن الذي يفكر ينطلق من أرضية الذات التي تمارس قطع المسافة نحو الأفكار، تؤمن وتصدق وتكذب وتخلق التصورات وتقيم الاحتمالات وتقبل وترفض المقدمات، فالفكر هو انفصال الذات عن الأفكار، والتحليق بأدوات المعرفة كالنظر والتجريب والتجريد للوصول لهذه الأفكار. أقصد الوعي بأن هناك ذات واعية أنها تمارس التفكير، وأن الأفكار ليست مباشرة في الوعي أو ملتصقة به، بل هي من نتاج الذات المفكرة التي تنبض بالعقل، حتى كلمة "معرفة" تنطوي على "فعل"، هو هذا الخلق والتمثيل والمعايرة للمفهوم.

إن "الكوجيتو الديكارتي" أو "الأنا أفكر اذاً أنا موجود" لا تكمن قيمته الفلسفية كاستدلال فلسفي على وجود الذات، بل قيمته كوعي بهذه الذات والذي تولد أثناء حراك ديكارت العقلي وهو يبحث عن وجوده بالنظر المجرد.

يمثل "الكوجيتو" مقاومة صارمة للحدس القوي الذي نحمله ونحن نتساءل سؤال "هل أنا موجود"؟ هذه المقاومة هي بداية الفكر نفسه، لأنها بداية التساؤل الذي لا يعبأ بالحدس الأولي، ومعها تتولد الذات مباشرة، بمعنى أنه ليس هناك انفصالاً في الميقات الزماني الوجودي بين بداية الفكر وميلاد الذات، تولد الذات بمجرد الفكر ومعه مباشرة.
 

وهذا ليس لأن ديكارت هو أول من مارس الفلسفة أو نشاط الفكر بل مارسه قبله أرسطوطاليس وأفلاطون وأرخميدس بقرون طويلة ،وليس لأنه أول من مارس الشك الفلسفي، فتاريخ الفلسفة يحكي عن شكاك الأكاديمية اليونانية "عام 180 قبل الميلاد" التي ابتدأ فلسفتها "بيرون" ومن بعده "أنيسديموس" الذين تشككوا في كل معطيات الوجود والإدراك الحسي وكل شيء تقريباً، بل لأنه مارس الشك الذي جعله يشعر بذاته وهي تتحرك وتقطع مسافات في فضاء الأفكار وتولد معه الوعي بذاته، الشك هو عين الوعي بأن الذات منفصلة عن الأفكار وهي ليست الواقع بل مطابقة عقلية له.
 

الحدس نفسه من صميم الفكر، وهو يتولد من حقائق حسية أولية أو تصورات عقلية أولية أو رتابة في النظر والتأمل مما يجعل الإنسان يخفق أحيانا في الوعي بذاته وعقله وأنه منفصل عن هذه الأفكار وأنه هو فاعل لها، وبالطبع يتلقى الإنسان أحياناً كثيراً من الأفكار بدون الخوض الفكري فيها "الفعل" وتظل قابعة في ذهنه طويلاً، ولكن سرعان ما ينفصل عنها عندما يدخلها في دائر الفكر والسؤال.

الحقيقة بالنسبة لعالم ما بعد ميلاد الذات، هي حقيقة بالنسبة للذات، لا أقصد أنها غير موضوعية أو أنها نسبية و خلافه، بل أنها نتاج وعينا بذواتنا وأننا نحن من ننتج الحقيقة نفسها وأنها منتج معرفي وليست من صميم الذات.
 

هل العقل هو نفسه الذات ؟ كلا الذات هي الرقيب المعرفي الأعلى الذي يخضع العقل نفسه لسلطة التفتيش والضبط والتحقيق الفكر؟ عندما نتصور تصورات محددة أو نصدق بجمل معرفية معينة بعقولنا، فان ممارسة التأمل الداخلي هو الذي يتيح لنا الانفصال الوجداني بيننا وبين أفكارنا، فيحصل شيئا شبيها بتعدد المكنونات الوجدانية داخل النفس الانسانية، حيث هناك حدس وعقل وادراك، وهناك ذات تمارس الحراك الفكري، ولهذا فان من أكبر الخطايا المعرفية هي استخدام الشك المنهجي أو التبرير العقلي لنتاج موجود أصلاً في النفس من ثوابت أو مسلمات، ينبغي للفكر أن يكون وسيلة الذات لممارسة الرقابة المعرفية على العقل نفسه، لو كان من بين مبادئ الحداثة السياسية في فكرة الدولة الحديثة "الفصل بين السلطات السياسية"، فإن من مبادئ الحداثة العقلية هي "الفصل بين السلطات المعرفية".
 

 إننا بوعينا بطبيعة المعرفة الإنسانية بأدواتها، بحدودها ومصادرها، وبوعينا بذاتنا المفكرة وتحقيق مبدأ الفصل بين السلطات المعرفية "العقل- الذات"، نحقق ذلك الشعور الوجودي العميق بأن الأفكار هي إنسانية .

ما أود أن أقوله أن الفكر نفسه ليس الأمر المهم، بل الوعي به، وهذا ما يقدمه التأمل الداخلي الذي تنتج معه حالة الوعي بالذات كما ذكرت، الإنسان الذي يتلقى أفكاره تلقيناً من الكاهن أو المربي أو المنجم أو العالم أو الفيلسوف، والذي يقوم بخلق أفكاره أصالة عن نفسه لا فرق بينهما أبدا، لأن ما يهم ليس مصدر المعرفة، التجريب أو النظر العقلي أو الشهادة أو التلقين ، بل الوعي بطبيعة هذه المعرفة وأنها موجودة في درجة وجود تابعة للذات سواء كانت مفكرة وخلاقة وحرة أو كانت منقادة وتابعة ومقيدة .

وهذا هو المدخل الأكبر للتسامح الإنساني، إننا بوعينا بطبيعة المعرفة الإنسانية بأدواتها، بحدودها ومصادرها، وبوعينا بذاتنا المفكرة وتحقيق مبدأ الفصل بين السلطات المعرفية "العقل- الذات"، نحقق ذلك الشعور الوجودي العميق بأن الأفكار هي إنسانية ولا تحمل قداسة لأنها من فعل الإنسان وخلقه وإبداعه فالأفكار ليست الواقع كما ذكرت، بالطبع لا أقصد أنه ليس هناك حقائق مقدسة، بل أن مطابقة هذه الحقائق المقدسة أو الأفكار المقدسة هي منفصلة عن الواقع وليست مباشرة في ذواتنا، ونحن من نجدف ونحلق نحوها بالفكر، عليه أقول إن ما نحتاجه كمنجز حضاري ليس العودة إلى الذات كمضمون حضاري ثقافي، بل ميلاد الذات نفسها كفعل فلسفي مستقل وأصيل.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.