شعار قسم مدونات

تكاليف الثورة المهملة!

Members of the civil society and political parties participate in a protest against foreign military deployment to South Sudan in the capital Juba, July 20, 2016. REUTERS/Jok Solomun FOR EDITORIAL USE ONLY. NO RESALES. NO ARCHIVES.

كانت تلك المسوغات التي يبثها النظام القائم في السودان، ولنكن أكثر دقة، كانت تلك مسوغات أصحاب رؤوس الأموال المرتبطة بالأفراد المتقلدين للمناصب التنفيذية طوال العقدين الماضيين في الحكومة السودانية، وهي إن كل التنظيمات وأصحاب الرأي المخالف مخربون بطبعهم، يسعون دون ادخار جهد لإعاقة عجلة التنمية، ويسعون حثيثاً لوقف مشروع استنارة مستمد من نور رباني تعمل السلطة على ترسيخه داخلياً وتصديره خارجياً. أضف لذلك من باب زيادة الخير العمالة للأجنبي وخيانة الأمة.
 

كانت الحيلة تنطلي حتى وقت قريب عندما تغلف بالنص القرآني، وتقدم بخلاصة الدروس المستفادة من عاطر سيرة النبي وصحابته وتابعيه الكرام. الآن لا يفهم المواطن سوى أمر واحد، كان حتى وقت قريب يذم ويوبخ ويوقف عند ذكره في خضم دعاوي الجهاد وتبصير العباد. أين الخدمات التي تقدمها الدولة؟ يرى المواطن السوداني أجهزة تنفيذية ووزراء ومسؤولين حكوميين وميزانيات قومية وولائية، لكنه لا يجد الخدمات التي يفترض أن تقدمها الدولة. يعلم الآن أنه لن ينال حقه من التعليم الكامل والصحة، ولن يجد معينات تساعده في التنقل أو ممارسة نشاطه التجاري والرعوي والزراعي؛ ما لم يعمل بمفرده لينالها. يعلم أن الأجهزة التنفيذية والتشريعية والقضائية ما هي إلا أجهزة موجودة فقط للإيحاء بأن هنالك دولة!
 

ليحافظ النظام الشمولي على بقائه يطعن في شرف كل الفاعلين الوطنيين، وهو في النموذج السوداني ناجح بقوة

تشهد الساحة متغيرات عدة على مستوى الحراك الشعبي، ابتدرتها لجنة أطباء السودان المركزية بتنفيذها لإضراب مفتوح عن العمل منذ أكتوبر الماضي، ويمضي حتى الآن بصورة مجدولة، تفاعل معه المواطن تفاعلاً إيجابياً، احتجاجاً على ضعف الميزانية المقدمة من قبل الدولة للخدمات الصحية وعدم توفر المعينات المساعدة على العمل الطبي. لكن الأمر آخذ في التطور عقب رفع الدعم عن السلع الاستهلاكية الرئيسية في وقت يعيش فيه غالبية الشعب تحت خط الفقر، ولا يكفي راتب المواطن الشهري إن وجد، حسب الإحصاء الحكومي الرسمي لتغطية 10 في المئة من تكلفة معيشته.
 

تبع إعلان رفع الدعم دعاوي ابتدرها نشطاء ولحق بها سياسيون، لكنها جاءت بصورة لم تألفها القوى المعارضة، ابتدرت بوسم "أعيدوا الدعم للأدوية" نجح في الوصول إلى مبتغاه الاحتجاجي ودفع الحكومة لعقد مؤتمر صحفي أعلنت فيه تراجعها عن تحرير سعر العملة الحرة للشركات العمالة في مجال استيراد وتصنيع الدواء، بالرغم من أن المؤتمر الصحفي لوزير الصحة لم يقدم حلولاً ناجعة، وأوغل في التبرير وإلقاء اللائمة على مسؤولين قدموا تقاريراً ضللت الحكومة ودفعتها لاتباع ذلك الإجراء، التصريح لم يجد قبولاً عند المواطن، وتبعه بوسم "العصيان المدني السوداني27 نوفمبر" يدعوا للعصيان احتجاجاً على جملة الحزم الاقتصادية التي قالت الحكومة إنها تأتي لانعاش الاقتصاد وهي الحجة التي كانت أحدى مبرراتها للانقلاب على السلطة الشرعية قبل 27 عاماً.

نفهم الآن أن الحكومة عجزت في ذلك وتعمل على علاج مشاكلها بإدخالها يدها في جيب المواطن فعلياً لتسير شأنها اليومي من جانب، ومن جانب آخر تتبع الروشتات العلاجية التي قدمها لها خبراء البنك الدولي. كل ذلك قد لا يكون في ذات أهمية النقاش الذي تلى الوسوم التي تدعوا لإسقاط النظام وتغييره، وتعداها لأبعد من ذلك عن جدوى الفعل العام الذي نشهده داخلياً.
 

إن دعاية النظام الشمولي التي تسود الآن ناجحة في إرباك المشهد، وصرفت النظر عن تكاليف التغيير وعملت على جعلها مهملة

وسط تلك الدعاوي، تجد بعض المواطنين لا يخفي امتعاضه من دعم القوى السياسية لحراكه المبتدر إسفيرياً، ويلقي بالأئمة على القيادات المعارضة متهمها بالعجز والضعف، ويتخطى ذلك ليصف الإعلام والإعلاميين بالمضللين وأصحاب المصالح، ويتهم نخبته بعدم قدرتها على رسم المعالم والرؤى المستقبلية أو بالأحرى تقديم البديل لما هو كائن الآن.
 

النظام التوتاليتاري القائم رسخ لتلك الأسئلة مستخدماً شتى السبل، من خلال سيطرته على أجهزة الدولة، واستخدامه كافة الوسائط الإعلامية لرسم صورة واحدة للشخص الإصلاح للحكم الأبدي، وطوع أجهزة الدولة العسكرية "الشرطة، الجيش، جهاز الأمن" لضرب كافة الأحزاب السياسية الوطنية. ساهمت تلك الدعاية التشكيكية والتخوينة المساقة بكل وسائل العنف، في تعتيم الرؤية لدى الغالبية العظمى، وأضعفت القوى السياسية للحد الذي يدفعنا للقول إن بقائها حتى تاريخ اللحظة يعد انتصاراً في حد ذاته ومكسباً وطنياً.
 

ليحافظ النظام الشمولي على بقائه يطعن في شرف كل الفاعلين الوطنيين، وهو في النموذج السوداني ناجح بقوة؛ فمن خلال الدعوات الاحتجاجية المذكورة أمتعض بعض المحتجين من دخول السياسيين في مسار الاحتجاجات، ولم يكن الغضب من الحضور المتأخر بل من فعل الحضور نفسه، وهي ملاحظة مفارقة تلقى الترحيب من قبل بعض المواطنين، لكنها في ذات الوقت إحدى أدوات النظام القمعي الساعي لإبعاد السياسي عن مسرح فعله الطبيعي، حتى في حالة غضب المواطن من النظام نفسه. ماذا تفعل الأحزاب السياسية إن لم تشارك أو تساهم في تنظيم الإضراب والاحتجاج السلمي ضد السياسات الحكومية؟ أليس من الطبيعي أن يحتج المواطن المحزب؟ وهل للحزب مبرر للوجود سوى سعيه للوصول إلى السلطة؟
 

لحظة التغيير لم تغدو محض أماني، بل دخلت حيز الفعل والعمل، لكنها لن تنجز مالم يؤدي كل منا تكلفة المهمل، التكاليف المناط بالمواطن تنفيذها وبالسياسي دعمها وتنظيمها..

إن دعاية النظام التوتاليتاري التي تسود الآن ناجحة في إرباك المشهد، وصرفت النظر عن تكاليف التغيير وعملت على جعلها مهملة. ينبغي علينا الفهم إن النظام القائم في أوهن لحظاته ويرفض الإصلاح والتغيير، لكن قبل ذلك علينا أن نعي بتكاليفنا جميعاً. فإطلاق المواطن لدعوات الاحتجاج والاعتصام لا يعني أن مطلق الدعوة وحده المصرح له بالعمل العام، بل هو دوره الطبيعي، وإن السياسي الذي يسعى لتنظيم ودعم ذلك الفعل ليس انتهازياً كما يروج له، إنما يؤدي دوره المطلوب، وإن الناشط السياسي لن يحتكر دور السياسي المنظم، والنخبة التي تعمل على صياغة الرؤى المستقبلية والإجابة على أسئلة البديل المؤرقة هي أيضاً تؤدي واجبها ولا تجلس في أبراجها العاجية وتدفع بغمار الناس إلى موارد التهلكة كما يسمها البعض ويروج لتلك السمة.
 

للتغيير تكاليف ينبغي على الجميع الإحاطة بها، أدوار فعل مقسمة لا يُدرك نجاحها مالم يحط الجميع بأدوارهم، تلك هي النقطة الفارقة التي تعمل الدعاية المضادة على تغيبها عن الجميع؛ فبعد إطلاق الدعوة عملت على طرح سؤال نجاح الاعتصام من عدمه، وقبلها كانت تقدم تساؤل هل نحج الوسم في تصدره لمواقع التواصل الاجتماعي أم لا، وقبلها بكثير ألبست السياسي ثوب الانتهازي الساعي لكرسي الحكم على أكتاف الجميع.
 

نحن نشهد لحظة التغيير في صورتها الحتمية الثابتة، اللحظة التي يقدح فيها التفكير المثقل بالهموم والأزمات شرارة الأمل، شرارة الفعل العام، الانفلات، الحراك، الاشتعال. لحظة التغيير لم تغدو محض أماني، بل دخلت حيز الفعل والعمل، لكنها لن تنجز مالم يؤدي كل منا تكلفة المهمل، التكاليف المناط بالمواطن تنفيذها وبالسياسي دعمها وتنظيمها وبالمثقف التأطير والنظير لها، لا كما يريد لها أصحاب المصالح أن تكون أحادية وأنانية وتخوينية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.