شعار قسم مدونات

قناة الـ "OTV" وفصام الفكاهة العنصرية

BLOGS- قناة أو تي في

بدأت إحدى حلقات "هدي قلبك"، البرنامج الذي يبث على قناة الـ "أو تي في"، والذي يفترض بأنه برنامج إعلامي فكاهي "من نوع الكاميرا الخفية"، بمشهد لشاب يبدو وكأنه يبحث عن عمل في لبنان بشكل ملح، مثله كسائر الشباب العاطل عن العمل المترامي هنا وهناك باحثا عن لقمة العيش، المشرد والمبعد عن موطنه قسرا، كما هو الحال لو كان الشاب سوريا حيث أن لهجته لم تدل بشكل قاطع على جنسيته.
 

استقبلته شابة استعراضية يفترض بأنها المسؤولة عن التوظيف، فبدأت بتأدية دورها المطلوب برداءة، ثم شرعت في إقناع الشاب بتوصيل مسدس إلى شخص آخر سينتظره على الطرف الآخر من الطريق في طلب مفاجيء، ولا يمت بصلة لنوع العمل الذي كان قد قدم من أجله، وسندرك لاحقا بأن هذا الطلب كان أخف ما مرّ في سياق هذه الحلقة. قبل الشاب بعدها مغلوبا على أمره، آملا أن لا يخسر فرصة العمل وهو الذي قد يكون بحث طويلا، وتنقل بين عمل وآخر، في سبيل أن يحصل على كفاف يومه.
 

لا تدل الحركات والمصطلحات التي استُخدمت جميعها في ترهيب وإذلال الرجل، على أي نوع من العفوية أو الغاية في إثارة الفكاهة، بل بدا وكأنه محترف تشبيح نظامي عمل لعقود في فروع المخابرات والأمن

تكتمل بقية مشاهد الحلقة بعدها على حاجز وهمي نُصب في منتصف الطريق، مع رجلين مسلحين يدعيان بأنهما من فرع الحفاظ على الأمن، وتحت هذه الذريعة يبرعان في ابتكار أحط الأساليب لإذلال الرجل و إخضاعه، وإجباره على تنفيذ أكثر الأوامر المهينة للإنسانية. ينفذ الشاب بخوف شديد وبلا اعتراضات تذكر، وهو الذي من المحتم أنه قد سمع ورأى وربما ذاق أيضا من ويلات وعذابات مخابرات النظام السوري وفروعه الأمنية، وحواجزه، لبنانيا كان أم سوريا، آملا بأن تنقضي القصة على ذلك فقط، دون أن يُرحل أو يؤخذ إلى حيث لا يدري أحد وينتهي مصيره في غياهب النسيان.
 

لا تدل الحركات والمصطلحات، التي استُخدمت جميعها دون استثناء في ترهيب وإذلال الرجل، على أي نوع من العفوية أو البراءة أو الغاية في إثارة الفكاهة، بل إن مسحا سريعا للغة الجسد والأوامر التي كانت تصدر عن شخص لم يبدُ كممثل أو إعلامي متنكر في دور كُلف به، بل بدا وكأنه محترف تشبيح نظامي عمل لعقود في فروع المخابرات والأمن في مظهره وطريقة كلامه.. يؤكد لنا وبقوة بأنها تنحدر من إرث مخابراتي ترهيبي عنيف، وضارب الجذور، قد عانى منه اللبنانيون قبل السوريين، أي إرث نظام البعث الأسدي القائم على مبدأ الذل والإذلال وكل ما يستطاع منهما.
 

تدل كل هذه البذاءة اللفظية، مقترنة بالانحطاط النفسي الذي مورس ضد الضحية "المستهدفة هنا للمرة الثانية على فرض أن الشاب كان سوريا"، على أنها كانت متعمدة، ولكن في قالب إعلامي يدعي الفكاهة، حيث أخذت هذه المصطلحات شكلا مألوفا جدا بدءا من "عطيني أوراقك و أوراق السيارة؟"، وانتهاء بـ"كنو لابس حزام ناسف ،جاي تفجر ولاه!".

وهي كلمات لا يختلف أحد على وقعها الترهيبي وما يمكن أن تستدعيه من ذكريات قاتمة في عقلنا الباطن، في محاولة حثيثة هنا لأن تلمح وتسخر وتنال بشكل أو بآخر من الصورة التي تراكمت عبر عقود في اللاوعي الجمعي عند اللبنانيين "الموارنة تحديدا" عن الفرد السوري، وذلك علنا وعلى شاشة التلفزيون -لا تخفى تبعيتها لرئيس البلاد الحالي ميشال عون- باعتبار أن هذا السوري هو مخترع هذه الأساليب وهو مدان بها، متناسين بل ومتعامين عمدا عن التفريق بين ما كرسه جند النظام الفاشي السوري، وبين ما رزح تحته الشعب السوري كما اللبناني تماما.
 

ولا يدري هؤلاء الجنود -وهم هنا على هيئة أشباه إعلاميين بدءا من الممثلين، وانتهاء بكادر البرنامج، وصولا إلى موظفي القناة جميعا-بأنهم يمرون في حالة انفصام نفسي شديد القسوة والخطورة في آن، وبحاجة إلى علاج طويل. وهذا كله انعكاس لانفصام أكبر، وأكثر تمكنا من النفس، للقيادة التي يتظللون بظلها ويعتقدون بأنهم صوتها الحر ورجالها الأشاوس.

تدل كل هذه البذاءة اللفظية، مقترنة بالانحطاط النفسي الذي مورس ضد الضحية، على أنها كانت متعمدة، ولكن في قالب إعلامي يدعي الفكاهة

ويتجلى هذا الانفصام من جهة باستحضار حقدهم التاريخي ضد الجلاد، والاستعانة به وبأسلوبه للانتقام منه كما يحلو لهم ان يعتقدوا في عقولهم المخدوعة والمشوشة قسرا، وهو هنا النظام السوري الذي قام بإذلال اللبنانيين على مدار عقود طويلة، ونال من كرامة الموارنة بشكل خاص حين أطاح بعون وعزله ونفاه بالشكل الذي حدث عام 1990، وهو يعيده اليوم بعد سنوات إلى سدة الحكم بمشيئته ومباركته، مؤكدا على أنه ما يزال اليد الفاصلة في عملية القرار بعد كل هذا الوقت، ولا شيء تغير سوى الواجهة.
 

والحالة مرتبطة من جهة أخرى بالوعي العميق بعدم القدرة على الانتقام أو المساس بكيان هذا الشيطان الكبير، الذي يقابله بالتالي إحساس مستمر بالعجز، يتضاعف ويتضخم في داخله حجم الإحساس بالحقد المسؤول عن افراز العنصرية، مما يؤدي إلى البحث عن حلقة أضعف لا بد لها أن تكون سورية الصورة والتكوين، لتفريغ هذه الروح الانتقامية والسادية معا.

وهذه الحالة ستدخلهم فيما بعد ضمن حلقة مفرغة لا تنفك عن إعادة انتاج هذين المزاجين، الحقد والعنصرية ذاتهما، وبصور وأمثلة أكثر بشاعة وامتهانا للإنسانية وقيمها، تُمارس هنا على ضحية جديدة تعتمد على الإدراك العميق اللاواعي بأن كل ما يحدث لم ينل بعد من الجلاد الحقيقي، ولم يكرس إلا عجزا وضعفا لم يفلحوا بعد في التخلص منه، وسوف يسعون في كل مناسبة -كما ذكرت سابقا- إلى تشويشه قسرا كي يستطيعوا الاستمرار.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.