شعار قسم مدونات

حالة التوحد العربي

blogs - garbage
وصلنا اليوم بشعوبنا العربية إلى حالة التوحد، وكأن أصل الكلمات تكشف لنا تماما أن ما يجمعنا لم يكن أبدا وحدة، بل حالة توحد تنكرنا لها حتى استفحل المرض بنا وتعدينا حالات الانفصام التي لا تفارقنا. فننظر إلى أنفسنا ونرى كائنات متوحدة التكوين تنكر لها أهلها فتنكرت لأنفسها، وأصبح التوحد هو وحدة مفهوم الواقع المعاش.

في كل جهة نلتفت إليها، من شعوب في شرق البلاد إلى أقصاها، من مصر إلى يمن، من شام إلى عراق، من فلسطين إلى سائر الأرض. خلل جيني ضرب في الإنسان العربي، وكأن ضياع البلاد من حروب ودمار وهلاك تركت وراءه أفق هذه الكائنات المتوحدة هائمة على وجوهها تنظر حولها لما خلفته الحروب الأهلية والاستعمارية من دمار.

نحن نعيش حياة موبوءة بقذوراتنا، في كل مرة أمر فيها من حاجز قلنديا تنتابني حالة من الغضب علينا كشعب ولا أكف عن التساؤل من المسؤول عن حالة القذارة المحيطة بنا؟

انتكاساتنا السابقة كانت مغلفة دائما بحجاب الاستعمار والاحتلال، واليوم بينما تعيش الشعوب استعمارات جديدة وسط نكسات لم تزل، تكشف حجاب الاستعمار ليبرز انتكاساتنا الذاتية.

كيف فشلت الثورات بإخراج إنسان عربي أفضل؟ كيف أخرجت هذه الكائنات المتوحدة؟ في الأصل بالتوحد، يقوم الأهل بمتابعة أبنائهم ليتقدموا خطوات لتعديل خلقي يساعد الدماغ على التأقلم مع ما هو قائم من تشوه جيني وتحسينه، ما يحصل معنا معاكس تماما، ما يحصل هو ذلك المنظر لأولئك المساكين في الشوارع هائمين على أنفسهم يلحقهم الأطفال ساخرين ضاربين مستهزئين.

ما زلت ألوم الحكومات على تردي أحوالنا، ولكن في نظرة ذاتية للواقع الفلسطيني المتردي، لم أعد أستطيع لوم الحكومات على الوضع القائم كليا، فإذا ما افترضنا أن الحكومة كائن ذات خواص جينية محسنة عن تلك المكونة للشعب المتوحد، فإن هذه الخاصية تنتهي لتكون الحكومة تدريجيا متوحدة الصفات، لأنها تتشكل من الشعب.

هناك عبء جماعي نرميه على الحكومات يزيح عنا المحاسبة، فنكتفي باللوم والتذمر والنحيب. ولأن الحكومة منا فتكتفي هي الأخرى باستغلال ما تستغله من موارد ونفوذ، متيقنة أن آفاق الشعب تنحصر في تذمر في يومه العادي ونحب عند نزول مصيبة. فتذوت التذمر والندب حتى توحد بداخل الشعب ليشكل كيانه.

هناك حالة من الضياع المستفحل في كياننا العربي. في فلسطين لم يبق شبر من الأرض إلا وتم نخره من ثم بلعه، يسقط أبناؤنا يوميا بدماء ارتوت منها الأرض حتى طفحت، ولا نزال نتصارع على حزب وفصيل. نعيش في حالة يغيب فيها القانون وسيادته معدومة وشغلنا الشاغل تشكيل محكمة والشعب في سباق على أحقيته بالمنصب الرفيع كالسباق المستميت المستفحل على المناصب الأخرى.

ومن استيطان وضياع حقوق فلسطينية استمر جني مآسيها منذ أوسلو حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم، هذه الملهاة التي نعيشها نحن الشعوب العربية ليست من صنيع الحكومات (كاملة)، بل نتاج ثقافي اجتماعي منعدم.

كيف نخلص لأرض لا نقدرها، كيف نقدر ما نتركه قذرا أمامنا، كيف نتوقع من حكومة أن تقيم لنا شأنا ونحن في أعظم أحوالنا  نسب الحكومة بالهمس والعلن.

عندما يكون المواطن العربي في مجمله في دولة كمصر على سبيل المثال لا الحصر، ففي بمصر المشهد واضح لا يمكن الاختلال في عدم فهمه. شعب يعيش على المقاهي وسط تلوث يستنشقه من عوادم السيارات ويزفره من أنفاسه عبر كم هائل من الدخان القادم من الشيشة والسيجارة. وكأن الهواء الملوث الحاجب لصفاء السماء هو الهواء الطبيعي.

هل الحكومة هي السبب في وجود الشعب على المقاهي بصورة دائمة؟ هل الحكومة التي تدفع المواطن إلى حالة التسميم العامة بالمجتمع؟ هل الحكومة هي التي تصر على انعدام حالة النظافة من الشارع والمقهى والطاولة؟ هل تقوم الحكومة بتدريب الشعوب على انتهاك الحق العام من شارع وحديقة وتحويلها إلى مجمعات للنفايات عامة؟

نحن نعيش حياة موبوءة بقذوراتنا، في كل مرة أمر فيها من حاجز قلنديا ينتابني حالة من الغضب علينا كشعب ولا أكف عن التساؤل من المسؤول عن حالة القذارة المحيطة بنا؟ كنت حتى وقت قريب ولا أزال جزئيا أحمل الاحتلال مسؤولية ما . فهناك قصور في الخدمات العامة. الحياة في القدس قد تكون أكبر مثال في مقارنة بسيطة بين الخدمات والمرافق العامة بين الأحياء العربية والإسرائيلية.

مشاهد القذورات العامة في القاهرة جعلتني أفكر في الموضوع بشكل مختلف تماما، أرجعني إلى مقولة لأحمد أمين في مذكراته عندما توقف كثيرا أمام النظافة في البيوت التركية وشوارعها. رحلاتي المتكررة لتركيا جعلتني أنحني احتراما لهذا الشعب، فحالة من نظافة الشوارع لا ترتبط فقط بحكومته، في النهاية عامل النظافة هذا هو من الشعب كذلك.

ما الذي يجعل إسطنبول التي وصل عدد سكانها إلى أكثر من 15 مليون؛ بنظافة ونظام وهدوء لا تستطيع القاهرة الوصول إليه ولا قلنديا؟ إنها المسؤولية الشخصية الذاتية التي نفتقد نحن الشعوب كأشخاص إليها. نفتقد إلى هذا الحس الجماعي للمتلكات العامة. هل من واجب الحكومة تعليمنا النظافة؟ هل على الحكومة تعيين شرطي بجانب كل مواطن يشرح له أن رمي القمامة في الطريق خاطئ؟ أن قمع السجائر لا ترمى في أي اتجاه تجده اليد؟ ما الذي تفعله الأمهات في البيوت؟ الآباء؟ أليست النظافة من الإيمان؟ أين الإيمان منا عند انعدام نظافتنا؟

كيف نمشي في شارع نساهم في تلويثه ونجلس في مقهى أكثر من جلوسنا في بيوتنا وقذورات المكان تحيط بنا؟ ونسب على الحكومة؟ هل على الحكومة تنظيفنا وفرض شروط استحمام مثلا على المواطنين قبل خروجهم إلى الشارع؟ كمية الذباب و"الهسهس" والناموس وما علم الله به من بعوض لا تجتمع فقط قرب حاويات النفايات بل حول الناس.

نسب بألسنتا ونقبح من الأرض بأوساخنا، ونصرخ عاليا: فلتسقط الحكومات الخائنة. السقوط الوحيد هو للشعب الهائم على خراب ما تقترفه يداه.

ما الذي يمنع الناس من الاستحمام وارتداء الملابس النظيفة؟ بأي شريعة تستيقظ صباحا وتمر من طابور طلاب جامعات تغلق أنفاسك لدى مرورهم؟ بأي شريعة تدخل المسجد لتسجد لوجه الله فتستبيحك رائحة البشر التي تدعي الإيمان عنوانا لها؟

أهاتر ما بين ضياع الأرض وانعدام النظافة عليها، كيف نخلص لأرض لا نقدرها، كيف نقدر ما نتركه قذرا أمامنا، كيف نتوقع من حكومة أن تقيم لنا شأنا ونحن في أعظم أحوالنا نقضي حياتنا بين عمل مجبرين على قضاء ساعاته ومقهى نهرب إليه من بؤس الحال ونسب فيه الحكومة بالهمس والعلن.

كيف تعيرنا الحكومات أهمية عندما نمشي على شارع وطن نحبه ونرمي قذوراتنا به ثم ننادي بأعلى صوتنا كم نحبك أيها الوطن. إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. ومثلما تكونوا يولى عليكم.

حكوماتنا الخانعة الظالمة البائعة لحقوقنا جاءت من أبناء أحبوا الوطن مثلنا، أولئك المارون بالشوارع الجالسون على المقاهي، نسب بألسنتا ونقبح من الأرض بأوساخنا، ونصرخ عاليا: فلتسقط الحكومات الخائنة. السقوط الوحيد هو للشعب الهائم على خراب ما تقترفه يداه، لشعوب تفتقر إلى النظافة، والنظافة أساس، لأن النظافة من الإيمان.

إيماننا منقوص، وعليه يكون من البديهي أن نحيا تحت حكومات ينعدم فيها الإيمان بشعوبها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.