شعار قسم مدونات

ترك ديسك التحرير في مصر واستشهد في إدلب

BLOGS-عمار بكور

لم أحزن على موت عمّار بكور، ثمة شعور آخر انتابني لا يُبوب في خانة الحزن ولا يرمي لحالة كدر ثمة مشاعر لا اسم لها. منذ أيام أقمنا فرحًا لصديق أعلن زواجه أشغلنا صوت الموسيقى رفعنا صوتها أكثر قلّبناها يُمنة ويُسرى وأمضينا الكثير من الوقت نرسم المعازيم ونحيي رقصة لا وجود لها إلا في زيف ما أردنا واختلاق ما نوده فنظهر بشعور ممسوخ لا اسم له. هل كنا سعداء لا أدري ولكننا كنا نسعى إلى مايشبه السعادة.
 

لما سمعت خبر استشهاد عمّار لم أشعر بحدث طارئ ولم أفعل شيئًا، اكتفيت فقط بإقفال صوت الموسيقى متغلبًا على مشاعر حيادية تطفو بي وكأن هذه الموسيقى صارت لعبتنا الظاهرية لنفتعل مشاعرنا ونرسم دموعنا كما رسمنا معازيمنا وأشهدناهم في ليلتها على فرحنا، ها نحن اليوم نشهدهم على جولة أخرى في إيقاع صامت مستنسخ.
 

ما أكثر هؤلاء المخبرين في إدلب وما أحقرهم وما أكثرهم في حلب وما أطمعهم وما أكثرهم في دمشق وما أجبنهم.

قبل أربع سنوات وصلت منطقة أبو روّاش في مصر حيث مقر قناة سوريا الغد، قابلت حينها مدير الأخبار ثائر زعزوع أشار لي بإصبعه لشخص في ديسك التحرير وقال اجلس بجانبه ليعرفك بطبيعة عملك مع سيستم غرفة الأخبار. عندنا كان هذا الشخص المشار إليه يُدعى عمّار بكور، ذاك الشاب الذي سيُرافقني أشهر طويلة على هذا الديسك الدائري الصغير لنُنتج هذه النشرة الإخبارية التي سنعدّها سويّة فيما بعد.
 

استقبلني عمّار بحفاوة وأجلسني بجانبه وقال لي "لا تقلق العمل بسيط ومعي ستكون بخير" وتابع "من أين أنت؟" وبعد أن أخبرته ضحك وكأنه يتواطئ معي مستعرضًا حميّة قُرشية فقال أنا من إدلب أيضًا سأكون معك كل يوم وسأعرّفك بهذا السيستم ببضع أيام لا تقلق. بادلته الودّ بمثله ولم يثر فضولي لهجته الحلبية الواضحة أو ربما أثارت لكن ذاك الوقت كان هناك أحاديث تهمني معرفتها أكثر من هذا الأمر، وما الفرق إن كان قد نشأ في جبل الزاوية أو خرج بمظاهرته الأولى في صلاح الدين، أليست الثورة من عرفتنا بأبناء درعا وجعلتنا نلف شوارعنا هاتفين "يا درعا حنّا معاكي للموت"!
 

ما أكثر هؤلاء المخبرين في إدلب وما أحقرهم وما أكثرهم في حلب وما أطمعهم وما أكثرهم في دمشق وما أجبنهم. علمت فيما بعد أن عمار بكور نشأ في إدلب وعاش حياته في حلب ودرس الإعلام وعمل فيه في دمشق وكانت هذه الحالة لعبته الدائمة فكل منطقة من هؤلاء مدعاته للفخر عند سماع نصر أيّ منها على قوات النظام وكتائب حزب اللّه. وكم هي كثيرة تلك الأخبار التي تصل عمّار فتدعوه للفخر وذاك لتوليه منصب "برديوسر" (منتج) لنشرة أخبار جيش الثورة وهي نشرة متخصصة بنقل أخبار الجيش الحر والمعارضة المسلحة بشكل عام.
 

آنذاك بدأت العمل كمحرر ضمن هذه النشرة بعد عدة أيام من التمرين على السيستم وسياسة هذه القناة وأسلوبها في تناول الأخبار وتحريرها، وكانت هذه النشرة يُعاملها عمار بشكل جدي وباهتمام عال، فعلى نقيض كثير من العاملين في ديسك التحرير الذين بات لهم تحرير الخبر عملًا اعتياديًا مملًا يظن عمّار أن خبره شديد الأهمية وسيحدث فارقًا فيهتم بكل تفاصيله وبالفيديو المرفق للخبر "video in".
 

أعلم أنك اليوم ذهبت قبل أن تشهد يوم سعدك بأن ترى الأسد وأتباعه يتساقطون في معركة عظيمة، كنت تتمنى أن تغطيها بكثير من القصص الإخبارية وأن فضولك الآن انتهى.

ذات يوم بعد أن فرغنا من إعداد تحرير النشرة كعادته أوصاني بأن أجهز الفيديوهات المرفقة للأخبار في غرفة المونتاج بالتنسيق مع العاملين، هناك وقبل أن أهمّ بالذهاب استوقفني ونظر إليّ وكما أنه يود هذه المرة أن أشاركه قناعته أكثر من يعطيني أمرًا، قال لي لا تعلم يا صديقي كم يسعد هؤلاء المقاتلين عندما يرون انتصاراتهم على الشاشة فحاول ما استطعت أن تطيل زمن المقاطع وأن تظهر كل وجوه هؤلاء الثوّار.
 

هذا الموقف كان مدهشًا لي ودعاني أفكر في ثناياه طويلاً علمت حينها بأن هذا الرجل يتعامل مع الخبر كقيمة حيّة ويعتبر نفسه مشاركًا بهذه الثورة من مكانه، وهذه الوظيفة لم تنتزع منه روح ثائر ليتحول لموظف يقبض ثمن عمله ربما لتنبؤه بعودة قريبة لهذا الميدان حيث يشارك هؤلاء المقاتلون أمنياتهم أو لربما هذا المرتب البخس الذي كان يقبضه. لم يكن مغريًا جدًا ليشوه ثوريّته فينقله من طهارة الميدان وصيحاته إلى غرفة دافئة تُنسيه ما الذي جاء به إلى هنا. ما الذي جاء به إلى هنا! جوابه أكثر شيئًا مسموعًا عند أية مصيبة في هذه القناة فالشتيمة الوحيدة المصرّحة بها علنًا في ديسك التحرير "الله يلعن الأسد" لا أدري مصدرها أو مخترعها لكنها كانت تتردد على لسان عمّار أكثر من أيّ شيء آخر.

خلال عملي مع عمّار توقفت علاقتنا على أدوار معينة وكان هذا مريحًا لكلانا فلا أذكر مرّة أننا اختلفنا على أمر ربما كنت احترم أقدميته فلم أتجاوزه فكان هذا مرضيًا لكلانا إلا أنني رغم ذلك أستطيع أن أصف عمّار بالشخص المشاكس كأي ابن بار لهذه المهنة، فلم يكن ليصمت على أي شيء لا يعجبه وكانت طموحاته تزداد كل يوم. وأكثر ما كان يوده ويشاكس حوله مع زملائه المحررين كثرة الأخبار حول تحرير الثوار لمطار كويرس العسكري ولا أدري حقيقة كم عدد التقارير التلفزيونية التي أعدّها متوعدًا بحصار خانق على المطار تارة وتحريره تارة أخرى، لكني أجزم أننا كنا أشدّ المتوعدين أكثر من أي وسيلة إعلامية.
 

عمّار بكور رجل من بين القلائل الذين عادوا لسوريا وهم يقصدون الحياة أولًا ويسعون فيها فإن حان موعدهم مع دار الآخرة فلتكن هذه الأرض مقصدًا للحياة العزيزة والموت الطيب لا لإحداهما

ها قد تحرر مطار كويرس يا عمّار إنه يوم سعدك ولربما كان سعدي أيضًا لكثرة ما رأيتك محتقنًا على هذا النصر وداعياً له، أعلم أنك اليوم ذهبت قبل أن تشهد يوم سعدك العظيم بأن ترى الأسد وأتباعه يتساقطون في معركة عظيمة، كنت تتمنى أن تغطيها بكثير من القصص الإخبارية وأعلم أن فضولك الآن انتهى وعلمت أخبارًا أعظم لانعلمها وأنك حيث أنت تتابع فضولنا بتبسم وتسخر من حياتنا وأحلامها.

أشهر طويلة جمعتني مع عمّار قبل أن يفرط عقد هذه القناة في مصر فيتفرق شملنا في طريق عبر البحر إلى أوربا وآخر في مؤسسة إعلامية أجنبية أو مصرية. في وقتها اختار عمّار أن يعود لسوريا مرورًا بتركيا ولا أظنه كان يشحذ أفكاره بعودته تلك بفكر جهادي أو حالة زهد بالآخرة أصابته خصوصًا وأن جُل من شهد عظائم سوريا ثم ذاق طعم الأمان بعيدًا عن أصوات المدافع لم يعد إليها، فأغلب من يقصد سوريا الآن هم هؤلاء الذين تخلّو عن كل شيء ووجدوا في سوريا جسرًا لميتة عظيمة توصلهم بجنة موعودة.
 

عمّار لم يكن كذلك فهو عاد لسوريا باحثًا عن حياة يملؤها زوجة وطفلة وعملًا يعينه عليهما أحبّ دنياه وسعى فيها بقلب يغمره إيمان عميق في دار أخرى سيلقاها وثورة واحدة تؤدي لكلاهما، وهذا ما يجعل عمّار بكور ذاك الشاب الصحفي رجلًا استثنائيًا بالنسبة لي فهو من بين هؤلاء القلائل، الذين عادوا لسوريا وهم يقصدون الحياة أولًا ويسعون فيها فإن حان موعدهم مع دار الآخرة فلتكن هذه الأرض مقصدًا للحياة العزيزة والموت الطيب لا لإحداهما.
 

عمار بكور صحفي سوري قُتل بقصف الطيران الروسي على قرية الدانا في ريف إدلب منذ أيام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.