شعار قسم مدونات

بيننا وبينهم عنصر التنمية المفقود

blogs - مؤتمر التنمية
سطر الباحثون دراسات ونظريات لا تعد ولا تحصى، أشبعت أرشيف الصروح العلمية والمراكز الأكاديمية، وأسمنت المكتبات العامة، في مقارنات بين دول الغرب المتقدمة والدول العربية. شمل هذا المجهود الفكري كل النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ورغم غزارة المنهل وتشعب الأطروحات في هذا الموضوع يستطيع طالب العلم أن يستخلص جذور الفروقات بين أوطاننا وأوطانهم في مفهوم "شراكة المجتمع".

فالمسألة ليست قدرات عقلية خارقة، ورثها المهاجرون الأوربيون إلى أمريكا، مكنتهم من إرسال أول إنسان إلى القمر. ولكن أعلنت الدولة، متمثلة في الهيئة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء، عن طموحها في اختراق السماء والوصول بالإنسان حيث لم يصل من قبل. ولم تكن الرؤية أو مسودات البرامج الوطنية كبرنامج أبولو يكفي، بل استوجب الأمر إشراك كافة قطاعات المجتمع في سبيل تحقيق الرؤية.

لو سلمنا بالعقد الاجتماعي المتوارث في مجتمعاتنا والذي يوكل القيادة بتولي كامل عملية صنع القرار، ورضينا به عقدا بيننا، يضل غياب الوجهين الآخرين للمشاركة بلا سبب أو عذر.

فسخرت الدولة الموارد المالية والإدارية والنظامية لتمكين مؤسسات المجتمع من مراكز أبحاث، ومؤسسات القطاع الخاص، والجامعات، وحتى الأفراد ذوي الخبرات، من المساهمة في هذا الإنجاز العظيم. كل ذلك في بيئة تنموية توفر الآلاف من الوظائف وتنشط اقتصاد المؤسسات الصغيرة والمتوسطة بالذات. تتنقل فيها الدولة بين أدوار المستثمر، والمشتري، والمنتج حسب نوع الشراكة ومتطلبات التنمية. بذلك تستقطب أكبر حجم من الكفاءات في الدولة متنافسين على توفير أفضل المنتجات أو الخدمات بأقل التكاليف، في جزء من السوق الاقتصادية خاص بالصناعات المتعلقة بالمشروع أو الرؤية.

وعلى النقيض الآخر فإن آليات الإدارة التقليدية، والتي تتحمل الدولة على عانقها تحقيق التطلعات والرؤى الوطنية، منذ مراحلها الأولى، ورق على مكاتب المسؤولين، وحتى عملية توزيع منافعها العامة على المجتمع، هي عملية أثبتت عدم فاعليتها وارتفاع تكلفتها مرارا وفي نماذج متفرقة من مشروعات وطنية فشلت أو لم تحقق أهدافها المطلوبة.

المشاركة السياسية
لهذه الشراكة المثمرة في الغرب ثلاثة أوجه ولكل وجه تأثيره على المجتمع والدولة. ولعل أكثرها ترديدا من أفواه المعارضين والإصلاحيين في الشرق الأوسط على السواء، هي المشاركة السياسية أو الديموقراطية، أو بمسمى أوضح، المشاركة في صنع القرار. وهي عملية إدراج جميع عناصر المجتمع من مؤسساته وقياداته وجمعياته التعاونية ومجموعات الضغط فيه وحتى الأفراد المواطنين وذوي الاختصاص، في منظومة صنع القرارات.

هي شراكة متعددة تسخر فيها جميع الموارد البشرية على أرض الوطن لرسم السياسات وصياغة الأنظمة، آخذة في الاعتبار تعدد المصالح العامة واختلافها باختلاف فئات المجتمع وتعددها، مواكبة ومتفاعلة مع المتغيرات سواء اجتماعية أو اقتصادية. وبذلك تمكنت الدولة في الغرب من رسم سياسات موضوعية ينتج عنها مشروعات وطنية تلبي متطلبات التنمية بفاعلية وتضع الوطن على الخطى الصحيح.

وهي شراكة ضرورية تفرضها ترامي أطراف المجتمع واختلاف تجاربه وظروف الحياة فيه، فالمشرع في الغرب يعي بمسلمات علوم الاجتماع، وما يفرضه عليه مركزه الاجتماعي والمادي من عزلة تمنعه من الاطلاع على تجارب الفئات الأخرى في المجتمع. فكانت هذه الآلية في اتخاذ القرار جسرا يقرب المسافات والهموم. ولكن تكمن معضلة هذه المشاركة في أنها نتاج عقد اجتماعي، موثق بتجارب تاريخية وأحداث مدنية خطت بنوده على مر الزمن. ولو سلمنا بالعقد الاجتماعي المتوارث في مجتمعاتنا والذي يوكل القيادة بتولي كامل عملية صنع القرار، ورضينا به عقدا بيننا، يضل غياب الوجهين الآخرين للمشاركة بلا سبب أو عذر.

مشكلة التنمية في الشرق الأوسط ليست مشكلة بنية سياسية أو قدرات عقلية لا تتوفر في بيئتنا الصحراوية، أو لخصائص جينية للغرب. بل هي دول تنظر إلى المواطنين كأصول يجب تسخيرها في عملية التنمية.

المشاركة الإدارية
وهي الوجه الثاني لأوجه الشراكة في الغرب، حيث لا تحتكر الدولة منظومة تنفيذ السياسات بكل ما يترتب عليها من وضع للاستراتيجيات وعمليات التنفيذ والتوزيع ومهام الرقابة والتوجيه، ولكن تقوم بتفعيل جميع العناصر الوطنية في هذه العملية. فتسخر الدولة أدواتها النظامية لتذويب العقبات، ويدخل القطاع الخاص إلى سوق الخدمات العامة مقدما منتجات لوجستية وخدمات استشارية، بينما توفر المؤسسات الأهلية والجمعيات الدعم في العملية التنفيذية من خلال الإشراف والرقابة على مشاريع الدولة وبرامجها.

وتتجلى نماذج هذه المشاركة في الغرب في هيئة جمعيات خيرية تقوم بإدارة مستشفيات حكومية، أو مواطنين أعضاء في مجالس إدارة المدارس العامة في أحيائهم، أو رابطة مستهلكين وخبراء صحيين تقوم بمراقبة الصناعات والسلع لكشف الممارسات الضارة.

تخلق هذه الشراكة بين الدولة والمجتمع اقتصادات وأسواق جديدة، متخصصة في المنتجات والخدمات العامة، وتستوعب جزءا كبيرا من القوى العاملة، مساهمة بذلك في تخفيض مستويات البطالة. هذا في إطار منظومة اقتصادية وممارسات تجارية تسعى إلى رفع الكفاءة والجودة وتخفيض التكلفة. كما تبدل هذه العملية الهياكل الإدارية العتيقة، والتي اهترأت من ترسبات الروتين البيروقراطي والفساد والمحسوبية، نعم حتى في الغرب يوجد محسوبيات، بهياكل أكثر شفافية وليونة في التعاطي مع المتغيرات.

المشاركة الاجتماعية
وهي أكثر أنواع المشاركة تعقيدا ومحل جدال في الشرق والغرب. المشاركة الاجتماعية هي عملية إشراك المجتمع في صنع الصورة والهوية الوطنية العامة من خلال مجمل الإنتاج الثقافي من آداب وفنون وسينما وعمارة. ولارتباط هذه العملية ارتباطا جذريا بالثقافة العامة للمجتمع والقيم التي يتبناها، يصعب على الدارس استخلاص دروس محددة وموضوعية قابلة للتطبيق في بيئات ثقافية مختلفة، ولكن نموذجين مهمين يبرزان للقارئ في بحثه.

بينما تأتي دولنا العربية بالخبراء الأجانب لتنفيذ المشاريع ووضع الاستراتيجيات القومية، كان الغرب يقيم المسابقات الوطنية في العلوم والاختراع على مستوى المدارس والجامعات.

فمن الدول من أوكلت للمجتمع كامل الحرية في غزل النسيج الثقافي والهوية الوطنية. فلا نجد فيها هيئات حكومية للرقابة الفنية أو الأدبية، أو عقبات نظامية تعجيزية تحد من مشاركة الأفراد والمجموعات في النتاج الثقافي. أما النموذج الثاني فهي دول تضع الإطار العام لآلية وخصائص المنتج الثقافي في نصوص تشريعية عامة كالأنظمة الأخلاقية التي تمنع الاستهزاء بالأديان والأعمال التي تخدش الحياء. وفي كلا النموذجين تقوم الدولة بدور جديد في هذه العملية وهو دور الناشر لهذا المجهود المجتمعي، حيث توفر الدعم المادي والسياسي لنشر هذه الأعمال الثقافية وبناء الصروح الفنية والأدبية كدار الأوبرا أو المسرح القومي.

بعد هذا الحديث كله نكتشف أن مشكلة التنمية في الشرق الأوسط ليست مشكلة بنية سياسية أو قدرات عقلية لا تتوفر في بيئتنا الصحراوية، أو لخصائص جينية للغرب. بل هي دول تنظر إلى المواطنين كأصول يجب تسخيرها في عملية التنمية. وإن كانت أنظمتنا تسمى بالدول الأبوية، فإن دول الغرب كانت أكثر كفاءة من دولنا.

بينما تقوم حكومات الشرق الأوسط باستبعاد المواطن من عملية المشاركة ووأد طموحه في المساهمة في تنمية الوطن، تسخر الدول في الغرب كافة مواردها في سبيل تمكين المواطنين -الأبناء- من الإنتاج والإبداع، بحيث تخلق مجتمعا قادرا على الوقوف بنفسه في وجه الأزمات.

وبينما تأتي دولنا العربية بالخبراء الأجانب لتنفيذ المشاريع ووضع الاستراتيجيات القومية، كان الغرب يقيم المسابقات الوطنية في العلوم والاختراع على مستوى المدارس والجامعات، بحثا عن أفكار جديدة تخدم الوطن بعقول شبابهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.