شعار قسم مدونات

الدراسات العليا.. حاجة فعلية أم "برستيج"؟

blogs-الدراسات العليا

على قارعة الطريق، وسط صمت زبائن قهوة الحي، دار حوارٌ ارتفع فيه الصوت، ولاح في الأفق ضجيجٌ فكري، بين مهندسٍ عَمِل في شركة بعد أن أنهى دراسة البكالوريوس وأضحى ذا خبرةٍ في مجال دراسته، وبين صديقه طالب الدكتوراه في السنة الأخيرة من إحدى جامعات أوكرانيا، دفعني هذا الحوار لكتابة هذه الأسطر.
 

لاشكّ أن تحصيل الدرجات العلمية العليا شيء جميل ويبعث في النفس أملاً ونشاطًا، ناهيك عن المكانة الاجتماعية التي يفرزها المجتمع لتلك الفئة من الناس، ويرصد لهم مكانًا مرموقًا من التقدير والاحترام، لكنّه ترك فجوة تكبر مع الأيام بين الحاجة الحقيقة لذلك وبين الالتحاق بهكذا برامج للدراسات العليا.
 

قد تقابل أناسا، لم تتضح رؤية المستقبل الخاص بهم بشكل واضح رغم أنهم قد بلغوا من العمر رشدًا، فيكون التحاقهم ببرامج الدراسات العليا رغبةً منهم في الصيت والسمعة

لست هنا في صدد بناء حاجز أمام مسيرة الدراسات العليا، بقدر حرصي على إبراز نقطة غاية في الأهمية ألا وهي قضية الخبرة العملية للطالب حديث التخرج من درجة البكالوريوس، إذ يكون في هذه المرحلة قد مُنح العلوم والنظريات البحثية البحتة في تخصصه والتي بحاجة إلى تطبيق واقعي لها في ميدان العمل، الأمر الذي يمنحه خبرة واقعية ومعلومة قوية مرتبطة بتطبيق لامسه وعايش أجواءه، فالدمج بين الخبرة العملية والعلمية مسألة غاية في الإيجابية، وهذا ربما لا يتسنى لمن ينخرط مباشرة في الدراسات العليا.
 

باعتقادي، أنّ هذه الخبرة تتيح للشخص المعرفة الدقيقة حول مدى الانسجام مع التخصص الذي يريد استكمال دراسته العليا فيه قبل الانخراط بالدراسة الأكاديمية مباشرة، بالإضافة إلى ذلك ففي أحيان كثيرة يتعرف الشخص على جوانب كانت غائبة عنه أثناء دراسة البكالوريوس كالتطورات الجديدة في تخصصه مثلاً، ومدى حاجة السوق الفعلية لجانب من جوانب تخصصه، وتمنح تلك الخبرةُ البوصلة للشخص لمعرفة توجه سوق العمل واستكشاف التخصصات الجديدة.
 

في مسيرة الحياة قد تقابل أناسا، لم تتضح رؤية المستقبل الخاص بهم بشكل واضح رغم أنهم قد بلغوا من العمر رشدًا، فيكون التحاقهم ببرامج الدراسات العليا رغبةً منهم في الصيت والسمعة، أو لأنّ فلانًا قد حصل على هذه الدرجة. لذا عليك يا رفيقي أن تقف الآن وتسأل نفسك ناصحًا لها ومهذبًا لعشوائيتها، هل أنت فعلاً بحاجةٍ إلى دراسات عليا في تخصصك لأن ذلك سيمنحك المعرفة والاطلاع الأكثر في مجالك، الأمر الذي سيعينك على تحقيق أهدافك ورسم مستقبل مميز لك؟ أم أن ذلك كان مجرد اندفاع غير مدروس وتقليدًا لشخصٍ ما أو سيرًا على نمط الحياة المتبع في أسرتك والمحيط حولك؟!
 

إن لم يكن قرارك نحو الدراسات العليا مدروسًا ومن خلفِه حاجة حقيقة لذلك، فأنت لست في الطريق السليم وعادةً ما تكون قد سلكت طريقاً طويلاً

يا صديقي: إن يوماً تقضيه في ميدان العمل تسكب فيه علومك ومعارفك التي حصدتها في مرحلة البكالوريوس، وتضيف لرصيد خبراتك شيئًا لهو خيرٌ من طريقٍ مجهول لدراسات عليا، وإن كان تخصصك علمي ولابدّ للخبرة أن تكسوه فاسلك طريق العمل فإنه خيرٌ لك ولمستقبلك إلا إن كنت من عاشقي الدراسات العليا وقد اخترتها بناءً على علم ودراية.
 

كن على يقين أننا لن نوصف بالجهل إن لم نسلك طريق الدراسات العليا؛ فكثيرٌ من الأشخاص أبدعوا دون أن يحصلوا على درجات عليا كالماجستير أو الدكتوراه، كان لهم هذا الإبداع بعد أن حددوا مسارًا قويمًا لهم، اكتسبوا من خلاله خبرة عملية في مجال معين رفعت من أسهمهم بشكلٍ كبير في سوق الوظائف وميدان العمل، كان لهم ذلك لأن الخبرة العملية مهمة بنفس درجة الخبرة العلمية، والكثير من الشركات الكبيرة تفضل تواجد صاحب المعرفة والخبرة العملية بشكلٍ أكبر من صاحب المعرفة العلمية، ويمكنك النظر حولك لتشاهد الكثير من النماذج المُشرفة والناجحة بل وحتى المبدعة في حياتها بدون أن تملك شهادات عليا في مجالات تخصصها.
 

ختامًا أقول: إن لم يكن قرارك نحو الدراسات العليا مدروسًا ومن خلفِه حاجة حقيقة لذلك، فأنت لست في الطريق السليم وعادةً ما تكون قد سلكت طريقاً طويلاً، خصوصاً لذوي التخصصات التي لا يتم اكتمالها إلا إذا دُعمت بخبرة تحميها وتقومها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.