شعار قسم مدونات

كاسترو بمنظار عربي

Honduras' former president Manuel Zelaya (2nd L) places candle beside a picture of Fidel, pay tribute, following the announcement of the death of Cuban revolutionary leader Fidel Castro, in Tegucigalpa, Honduras November 26, 2016. REUTERS/Jorge Cabrera
ليس بالضرورة أن تكون شيوعيا حتى تحب فيديل كاسترو، بل يكفي أن تكون رافضا للهيمنة الأمريكية حتى تعترف بزعامة ذاك الرجل، يكفي أن تكون ابن منطقة فقيرة مضطهدة مسلوبة الثروات حتى تتعاطف معه وتكيل له عبارات المديح وتأسف لرحيله بعد عمر مديد تجاوز التسعين.
 

رحل فيديل وكان قد توقع رحيله قبلنا -منذ سنوات- حين عهد بمهمة الرئاسة إلى أخيه راؤول كاسترو، فالمسؤولية بمصاعبها وأزماتها صارت أكبر منه لتقدمه في السن، والرجل الذي تعوّد أن يخطب في الناس لساعات صار قليل الظهور ولم يعد يطيق الوقوف كثيرا ولا الكلام والحوارات المطولة ولا حمل "السيقار" بنفس الهيبة التي كان يحمله بها، لم يرض كاسترو لنفسه أن يتحول إلى رئيس أشبه بالدمية، إلى زعيم على كرسي متحرك يقاد قودا. ليس فيديل من طينة هؤلاء القادة الذين لا يطلبون من الدنيا غير الموت على كرس العرش أو بالأحرى فراش العرش..
 

مات كاسترو، لم تخطئه هذه المرة أسهم المنية، وهو أكثر من تعرض لمحاولات اغتيال باءت جميعها بالفشل، يقال أنه كان هدفا لأكثر من 600 محاولة اغتيال أغلبها خططت لها وكالة الاستخبارات الأمريكية "سي أي أيه" بوسائل مختلفة تنوعت من استخدام القناصة إلى السيجارة المسممة إلى عبوة ناسفة وضعت في داخل كرة بيسبول.. لقد أرهق كاسترو الأمريكان وجهاز مخابراتهم إلى أن يئسوا من قتله وتركوا الأمر لأمر الله الذي تحقق أخيرا..
 

لهذا الرجل "كاسترو" مآثر عديدة، ذكرها والثناء عليها لا يعني مطلقا أننا أبناء فلسفته، بل ما يعنيه أننا نقابل الحسنة بالحسنة.. ولقد أحسن لنا فيديل كثيرا. فوداعا كاسترو.. وشكرا من قلوبنا.

ستفرح القيادة الأمريكية -حتما- لموت خصم عنيد، ما أثناه ظلم الجغرافيا عن تحدي جارته الدولة الأكبر في العالم، حتى الحصار الذي فرضته على دولته ما أحبط شيئا من عزيمته، وظل كاسترو رافضا للهيمنة الأمريكية منوها بخطورتها ومؤامراتها على الدول الفقيرة والنامية. حتى وهو يشاهد مصير غيره من الرؤساء والزعماء الذين عارضوا أمريكا ونصبوا لها العداء، بقي كاسترو مقاوما يقاوم بيد ويبني كوبا بأخرى، فأولى التعليم المكانة الذي يستحق وشيد الجامعات وجعل من كوبا بلد الطب والأطباء، فصار الناس يهجرون أوطانهم ليتعلموا الطب هناك في الجزيرة الصغيرة المحاصرة وليتلقوا العلاج والدواء بمقابل زهيد..
 

صحيح أن الشعب الكوبي لم يبلغ درجة الرفاهة المأمولة وأن الآلاف منه كانوا يموتون غرقا هربا من شبح الفقر والبؤس والجوع، ولكن ما من شك أن العامل الأول في ذلك هو الحصار الأمريكي الذي بدأ منذ سنة 1960وما يزال متواصلا إلى اليوم والذي يعتبر أطول حصار في التاريخ الحديث، قطعا أن حصار طويل الأمد كهذا كان سيذهب بدول بحالها ويمحوها لو سلط عليها.
 

ورغم ذلك لا يجب أن ننسى ونحن نتحدث عن كاسترو أن الرجل لم يكن ديمقراطيا ولا كان يؤمن بالحرية ولا يروج لها، لكنه آمن بالثورة، والثورية الحقة قد تجب الاستبداد أحيانا، والوقوف في صف القضايا العادلة قد يشفع للمستبد ويكفر عنه بعض خطاياه ونصرة الفقراء بصدق قد تنسي المعتقلات السياسية والمحاكمات الظالمة..

دعونا ننظر لكاسترو من منظار عربي، ولنترك كل ما يقوله الغرب عنه جانبا، سنكتشف حقا أننا فقدنا صديقا مخلصا، لم يخذلنا في وقت خذلنا فيه الكثير من زعمائنا أبناء عرقنا وطينتنا، فساند القضية الفلسطينية وقطع العلاقات الديبلوماسية مع إسرائيل ما إن وصل إلى السلطة ووقف في صف العرب في كلّ حروبهم ضدها، وبقي على موقفه صامدا في حين رفرفت أعلام إسرائيل وما زلت في القاهرة، ليس هذا فحسب فكاسترو كان سندا للعراق أيام محنته وكان من الأصوات القلائل التي تتعالى رافضة التدخل الأمريكي فيه، كما أنه كان حريصا على سلامة العراق حين نصح الرئيس العراقي السابق صدام حسين بالانسحاب السلمي من الكويت سنة 1991.
 

لهذا الرجل مآثر عديدة، ذكرها والثناء عليها لا يعني مطلقا أننا أبناء فلسفته، بل ما يعنيه أننا نقابل الحسنة بالحسنة.. ولقد أحسن لنا فيديل كثيرا. فوداعا كاسترو.. وشكرا من قلوبنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.