شعار قسم مدونات

نظرة في إسلام السوق

blogs - islam

في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، انتشرت مقالات من الأزهر توضّح كيف أن الاشتراكية من الإسلام، وكيف أن النبي آخى بين المهاجرين والأنصار ووزع بينهم ثرواتهم، حتى كتب مصطفى السباعي كتابًا –ندم عليه لاحقًا- سمّاه "اشتراكية الإسلام".

وبعد أُفول نجم الاشتراكية وظهور أميركا كقوة عظمى وحيدة مُصدّرة للديمقراطية، أخذت الديمقراطية زخمًا كبيرًا في كتابات الإصلاحيين، فتم استدعاء نصوص تُثبت أن الديمقراطية من الإسلام، وكيف أن النبي والصحابة كانوا يعملون دومًا بالشورى، التي هي المرادف الحالي للديمقراطية.

الاستدلال الذي يقترن بمنظومة أفكار أخرى أجنبية، يطيل أمد تسلط تلك الأفكارعلى المسلمين، ويزيد الهوّة بينهم وبين استقلالهم الفكري.

والأمر لا يقتصر فقط على الاقتران المباشر للنص الديني بالأيدلوجيا الدخيلة، بل قد يكون تأثير الفِكر الدخيل خفيًا، فمثلًا الجانب الاقتصادي للأيدلوجيا الغالبة على المسلمين الآن وهو الرأسمالية، كان له نصيب من هذا التغلغل في الدعوة.

فجيل "الدعاة الجدد" الذي يقوم بالدعوة الدينية في قالب التنمية البشرية ونظريات إدارة الأعمال، يستدعي هو الآخر نصوصًا تدعم الرأسمالية التي يغرق فيها كل من حولنا، فيتماهى مثلًا مفهوم "النجاح" الديني مع الرأسمالية المحيطة بالقدرة على جمع المال أو الوصول لمنصب، فيتكلمون كيف كان النبي رجل أعمال ناجح، وأن عثمان بن عفّان رضي الله عنه بنجاحه في التجارة ساعد المسلمين في كثير من المواقف.

المتأمّل في كل اقتباس على حدة وما يُشجع عليه قد لا يجد به مشكلة شرعية، فالتآخي والحضّ على توزيع الثروة شيء عظيم، والشورى مبدأ تنصلح به الأمم بلا شك، والسعي في التجارة بالطبع من الأمور المباحة والتي تتيح لصاحبها فعل الخير.. ولكن المشكلة تكمن في السياق العام الذي يُساهم فيه هذا الاقتباس بالتماهي مع منظومة كاملة من الأفكار هي في حد ذاتها أعمق بكثير من المعنى المباشر الذي يُراد الاستدلال به في ذلك النص.

 والمشكلة هي أن الاستدلال مقترن بمنظومة أفكار أخرى أجنبية، يطيل أمد تسلط تلك الأفكارعلى المسلمين، ويزيد الهوّة بينهم وبين استقلالهم الفكري الذي هو أساس كل الجوانب الأخرى من الاستقلال المالي والعسكري والاجتماعي.

ورغم أن الإسلام دينٌ منفتح بطبيعته على الإنسانية وإسهاماتها، ورغم أننا نحن المسلمين مطالبون بنقل علوم الغير وتطويرها والإبداع فيها؛ إلّا أن الإسلام لا ينبغي أن يكون تابعًا لكل أيدلوجية تطرأ، أو مجرد وعاء يحوي الفكر الجديد ليعطيه نكهة مقبولة للمسلمين، بل يتم توظيف ما ينفعنا داخل إطار نظام الإسلام العام.

وقد قام الباحث السويسري "باتريك هايني" برصد مظاهرالرأسمالية المتسربة إلى تيارالدعاة الجدد في كتابه "إسلام السوق"، الذي بيّن فيه تبني تيار كامل من الدعاة من إندونيسيا إلى مصر لآليات ومفاهيم الرأسمالية ونظريات إدارة الأعمال للقيام بالدعوة. فتحول الداعية إلى "نجم" تليفزيوني، وتحول جلّ الخطاب إلى خطاب قلبي عملي بعيد عن السياسة ومواضيع العقيدة والفقه.

ومن الإنصاف أن ننظر لهذا التيار من جانبين؛ فالحق يقال إن ذلك التيار من الدعاة قد قام بدور مهم في إحياء النظرة الإيجابية عند كثيرمن الشباب، وانخراطهم في كثير من المشاريع التنموية والاقتصادية والأعمال الخيرية وتنظيم أعمال التبرع والإغاثة. ومثل هذا الجهد والتجديد مطلوب وفعّال ويجب تشجيعه في هذا السياق. فهذا الخطاب العملي وجد مساحة للعمل على الأرض لابتعاده عن السياسة واختياره عدم الاصطدام بالحكومات، وأيضا لتبنيه نظرة توافقية تُنحي الخلافات وتجتمع على المساهمة على الأرض بمشاريع ملموسة.

ولكن على الجانب الآخر، تقع مشكلة هذا الخطاب أنه تقولب في شكل دعوة إسلامية وليس حركة اجتماعية إصلاحية، فصار-لكثير من الناس– "بديلًا" عن الروافد الأخرى التي يستقي منها المسلمون دينهم. وصارت مفاهيم كـ "النجاح" و"الطموح" و"المنافسة" تتماشي مع معانيها في سياق الرأسمالية واقتصاد السوق، وهو تحقيق الثروة والوصول للمناصب. فلا مكان لمفاهيم العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة ومقاومة الفساد السياسي مثلًا.

في أوقات الاستضعاف والعجز يظهر توسّل المسلمين للأفكار والأيدولوجيات المسيطرة، واستجلابها بقلب منبهر مغلفًا إياها بغلاف إسلاميّ.

كذلك اختزاله أسباب واقع المسلمين في ابتعادهم عما تدعو إليه نظريات التنمية البشرية ونظريات الإدارة – وإن كان ذلك طبعًا يُغلّف بخطاب إسلامي –كإهدار الوقت، والتشاؤم، وعدم الطموح.. ولا يذكر تأثير العوامل الأخرى المهمة كوجود الأنظمة الاستبدادية والصهيونية والغزو الفكري. لأنه – ببساطة– كل ذلك لا يعني نظام السوق والرأسمالية. ولو كان التيار قد عبّر عن نفسه كحركة إصلاحية اجتماعية بدلًا من دعوة إسلامية بديلة، لما انتُقد لتبنيه مفاهيم معينة وتجاهله أخرى.

والخلاصة أنه في أوقات الاستضعاف والعجز يظهر توسّل المسلمين للأفكار والأيدولوجيات المسيطرة، واستجلابها بقلب منبهر مغلفًا إياها بغلاف إسلاميّ، إمّا لدعم تلك الأفكارالأجنبية عن قصد، أو بدون قصد –وهو الأغلب– لتخفيف وطأة إحساس الاستضعاف ببيان أن تبني تلك الأفكار من جنس الانفتاح المباح، فيكون الإسلام وعاءً للاشتراكية والعلمانية والرأسمالية وغيرهم فتُقبل الأيدلوجيا وتُسوّق لمجرد أن فيها من الإسلام.

ومن ثمّ يذوب الإسلام داخلها ويُصبح واحدًا من مكوناتها، وإن كانت بعض الآليات الأجنبية لا تتعارض مع الإسلام، وأخذها يتم من باب الاستفادة من المساهمات الإنسانية؛ فإن تبني تلك الأفكار كمنظومة فكرية كاملة كما هي دون إبداعٍ يوافق الهوية ويحافظ عليها؛ هو تكريسٌ للتبعية الفكرية، ومن ثمّ كل أوجه التبعية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.