شعار قسم مدونات

تراتيل الحياة.. قصة قلـم ورق الزجاج

logs-pencil

أهلا بكل الأقلام والأوراق، أود اليوم لو تعرفون حقيقة لطالما غابت عن الكثير منكم فأنا مجرد قلم رصاص كما يسمونني، وربما يطلقون عليّ النار.

حينما أصف لكم نفسي سأبدأ من قلبي الذي جُبل على السير وراء أي خطأ يرتكبه عقلي بسنّه المدبّب فتمحوه مضغة قلبي اللينة بكل سهولة ويسمونها الممحاة، يحدث ذلك حين أكتب بعقلي ما لا يفهمه قلبي أو روحي، فعقلي خلق للتفكير فيما تمليه عليه نفسي ولطالما أخطأ الاثنين معا، في الوقت الذي أحاول أن أجعل عقلي يتصالح مع قلبي، فيفكر القلب وينفذ العقل، أما النفس فقد وصفت هكذا في القرآن " إن النفس لأمارة بالسوء " وأحاول أﻻ أمتثل لها.

برغم كوني قلم رصاص فأنا أكتب على كل الأشياء إلا الزجاج ،غريبة تلك القوارير التي تأبى إلا أن يكتب عليها بمواد شديدة الصلابة فلا تُمحى.

ويا لتلك العلاقة الوطيدة بيني وبين الأوراق البيضاء منها فقط هي التي أعانقها كلما اقتربت منها، وتقبلني بوضوح بما فيّ من أخطاء ارتكبها، وإن أدركني الخطأ محوته وأدركت الصواب على نحو ما، فكم من أنواع الأقلام التي تكشط وتشوه ورقي الأبيض، وعلى الرغم من أن جزءا من أخطائي يظل مدونا عليها خافتا إلا أن نصاعة بياض الورق يطغى على كل تلك الآثار فيمحيها ويضفي عليها رونقا جديدا.

وبرغم كوني قلم رصاص فأنا أكتب على كل الأشياء إلا الزجاج ،غريبة تلك القوارير التي تأبى إلا أن يكتب عليها بمواد شديدة الصلابة فلا تُمحى، و تقبل بطواعية أن يُشكل عليها من كلمات أو رسم فتصبح كالأيقونة لا روح فيها إلا ما قد طُبع أو رسم عليها من شكل ثابت يفنى انبهارنا به بعد مرور الزمن.

لكني أنا قلم الرصاص وجدت طريقة أخرى لكي أكتب له ما أحب وهي أن أكتب على ورقة بيضاء وأضعها على سطحه الأملس الشفاف، فإن كانت صحيحة تركتها وإن كان بها خطأ نزعتها وأعدت كتابتها مرة أخرى .

ولا أنسى هنا ملكة سبأ المندهشة والمنبهرة عندما رأت الزجاج لأول مرة لما ذهبت لنبي الله سليمان الحكيم عليه السلام كما ذكر في القرآن "فلما رأته حسبته لجة فكشفت عن ساقيها"، "قال إنه صرح ممرد من قوارير"  وكأن القوارير أو الزجاج خلق ليعبر عن شفافية وبراءة إيمان المرأة.

أنا ولا فخر أبدا، أكتب فأخطئ فأمحو ثم أكتب وأمحو ملايين المرات، ولا ضير في ذلك فتلك الطبيعة البشرية وأنا أطمح لأن أكون بشريا يوما ما.

ولا غرابة في ذلك فقد أقسم الله الخالق بي فقال سبحانه وتعالى "ن والقلم وما يسطرون" وكنت من أوائل رواد أقلام العصر الحديث، الذي تدارك تلك النعمة من مقدرة التسامح والتصافح عن أي خطأ أرتكبه.

ولا ينافسني أحد كوني أول من دوّن الفكرة والحلم لكل عظماء التاريخ فإن كل من استخدمني أصبح له شأن وقيمة، أمثال العلماء والأدباء والمفكرين والفلاسفة، وبالتأكيد أعظم المهندسين والمخترعين.

ولا يفوتني هنا أن أذكر أيام الطفولة السعيدة ، وما أسعدني حينما كنت في يد طفل تتلمس أنامله الهشة أول خطوط حروف الأبجدية، وكم أضحكني ذلك الطفل حينما كان يحاول مسكي لأول مرة فلا يعرف من أي جهة يبدأ، مرة يمسكني من الأعلى وتارة من الوسط وأخرى مقلوبا، وكنت أﻻطفه ريثما يتمكن من كتابة ورسم أول حروف اﻷبجدية.

وكم أوجعني مئات المرات فقصفني كما تُقصف المدن بالرصاص، لكني كنت أحسه يحاول مصافحتي بيده البريئة لنبدأ معا مشوار النضج الفكري، وكلما قصفني كنت أتجدد ثانية لأجله، أتجدد حينما يبريني كما لو كان يشفيني فأشعر بالانتعاش مرة أخرى.

وحين استقام عود ذلك الطفل ونضج لم يعد يحيره من أين يمسكني بل أصبح السؤال أين يضعني ، فدعابات بني الإنسان معي كثيرة، فعلى سبيل المثال كلا من المهندس والرسام والنجار يفضلون وضعي بين الأذن والعين، وكأنني أرى وأسمع بدلا منهما وأزيد عنهما بأنني أرسم أسلوب الحياة لكل الناس. أما البنات فما زالت هوايتهم المفضلة لف شعورهم علي وكأنني عقلهم المفكر زيادة على كوني أكتب أحلامهم البنتاشعورية "كما الحواس الخمس"، ومن هنا أصبحت قلم شاعر في غزل البنات.

ولا أنسى أن أذكر لكم قصة طريفة فقد وقعت أسيرا يوما ما في يد أحد الفلاسفة الشعراء . هو يظن نفسه هكذا، على أية حال وللحق أقول لقد أتعبني ذلك الإنسان ، فقد كتبت له الكثير مما أدى إلى انتهاء أجلي.

وقبل أن ينتهي عمري بقليل كنت قد أوصيت عليه كل عائلتي من الأقلام الرصاصية والورق الأبيض والزجاج الشفاف. فقد لمست في ذاك الفيلسوف المتأمل نوع آخر من الكتابة والتعبير الذي تعلمت منه معاني الكلمات والحروف والأرقام بطريقة جديدة لأول مرة ولكن ماذا يفيد ذلك، أكاد أظن أن أفكاري أصبحت مشاعا لعامة الناس.

أنا قلم الرصاص.. سعيدٌ لكوني سأظل قلما فقط، أخطئ فأمحو فأفكر فأكتب أفضل ما عندي.

المهم وللحق أقول لكل أنواع الأقلام والأوراق، إنني كنت أكتب وأمحو الكثير مما يمليه علي ذلك الفتى وكأنني ضميره، إلا حينما أجده يكتب شعرا، أجدني أكتب بلا توقف أو تفكير وكأنني أنا الشاعر وليس ذلك الفتى المتأنق بذاته.

نعم أنا الذي كنت أكتب الشعر، أنا قلم الرصاص وباستطاعتي أن أكون قلما جيدا لمن يسطرون، وأحيانا رصاصا لمن يقتلون، لكني سعيد لكوني سأظل فقط قلما، أخطئ فأمحو فأفكر فأكتب أفضل ما عندي.

وأفضل ما أريد أن أكتب يوما ما، اسم تلك المادة السائلة الملونة التي يستحيل أن تمحى حروفها، يسمونها "حبر"، " فثلثي حروفها "حـب"، والمفارقة اﻷعجب في علم اﻷحياء أن يكون لون تلك المادة اﻷكثر استخداما هو "اﻷحمر" وهو مليك اﻷلوان المعبر عن الحب والعاطفة الرومانسية.

وأيضا هو لون دم القلب الصحي المشيع باﻷكسجين "واﻷزرق"، وهو أمير اﻷلوان المعبر عن فلسفة قوة ونقاء الطبيعة وأيضا هو لون عروق دم القلب المتعَب الخالي من اﻷكسجين، وكلاهما لون دم سال من القلب فلا يمحى وعلى الرغم من ذلك سيبقى ورقي ناصع البياض كلون مضغة القلب الطيبة كما يقولون.

وربما يكون إعادة ترتيب حروف الكلمة ذاتها كأحلامي "ما بـَرح أن ربـِح حـربُ في بَحـرِ رَحب " مــن "الحب" أو "الحبـر" وكلاهما غرق. أستعيد واقعي الملهم وأكتب اسمي المجرد " قلم " بلا ورق أو زجاج.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.