شعار قسم مدونات

تأليه الحاكم

blogs - presedint

من أشد الآفات خطرا آفة تأليه الحاكم ورفعه فوق مرتبة البشر بوضع البذور الأولى لجنون العظمة في نفسه، فهو الرجل الذي خلقه الله خصيصا لقيادة الأمة وهو الملهم الذي لا يخطئ، وهو القائد الذي لا يهزم وهو الناقد الذي لا ينقد وهو المعيار الذي نعرف به الحق والباطل، وغيرها من صفات الكمال الزائفة التي تقوده في النهاية إلى النظر نحو شعبه نظرة العبيد هذا إن لم يرهم دون ذلك.

ومن ثم يبدأ الحاكم مع كثرة الإطراء وغياب النقد والتغافل عن الأخطاء بالإحساس بأن كل ما يقوم به هو عين الحقيقة، وصريح الصواب وجلي الحق وأن ما يقوم به المخالف في الرأي هو الباطل الذي لا يقبل الصواب، عاكسا القاعدة المشهورة للإمام الشافعي رحمه الله التي تصبح لديه رأيي صواب لا يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ لا يحتمل الصواب، فيقتل كل فرصة للنقاش والحوار والذي يكون بمثابة الوسيلة الأمثل لتصفية وغربلة الآراء مما قد يلحق بها من نقص وقصور.

تنقسم الأمة في موقفها من الحاكم إلى فريقين فريق يعارض الحاكم في الباطل والحق معارضة تامة وفريق آخر يخضع له خضوعا تاما في كلا الأمرين.

والبطانة المحيطة بالحاكم تتحمل جزءا كبيرا من المسؤولية عن تولد هذا الإحساس، ويحدث هذا عندما تتجنب تبليغه هموم الشعب واحتياجاته وتخفي عنه صعوبات الحياة التي تواجه رعيته، وذلك إما خوفا منه أو اعتقادا منها أن في ذلك حفظا لمكانتها لديه.

وبذلك تنقطع حلقة الوصل بين الحاكم وشعبه التي تؤدي في النهاية -وذلك مع فقد الرعية للإحساس بوجود الراعي- إلى الثورة والعصيان عليه حتى ولو كان حاكما صالحا فقد أحاط نفسه ببطانة صورت له أن الشعب يتقلب في النعيم، ويدعو له بالليل والنهار ولبست الحق بالباطل حتى ثار الغضب المكبوت فكانت هذه البطانة أول من تخلى عنه.

ولا أدري كيف يجوز للحاكم تولي أمور الرعية مع الغياب التام للتواصل مع أفراد الشعب وذلك بإحاطته نفسه بالحواجز تلو الحواجز وبالحاجب بعد الحاجب وهي أشياء تمنع كل صاحب حاجة أو مظلوم من الوصول إلى فخامة معاليه.

لماذا يتولى أمور الأمة ويتبجح برعايته لها فيما يستحيل على فردها مقابلته؟ لماذا لأنه ينظر للحكم نظرة تشريف لا تكليف؟ مما أدى الى انتقال هذه النظرة القاصرة إلى أدمغة المسؤولين في السلطة ولا أدري من أين حازوا صفة المسؤولية وذلك من دماغ المسؤول الأكبر فيصبح طلب مقابلة الوزير كطلب الحصول على لبن العصفور.

ويمكن وبسهولة ملاحظة الفرق الشاسع بين الإحساس بالنفس لدى الحاكم هذه الأيام وبين الإحساس بالنفس لدى الرعيل الأول من هذه الأمة الناشئ على يد النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، حيث نجد نكران الذات مع الإدراك العميق بأن الاتباع لا يكون لشخص الحاكم بل يكون للحق حيث كان، وأبو بكر الصديق- رضي الله عنه- هو خير دليل على اتصاف ذلك الجيل بهاتين الصفتين.

فهو لم ير في الخلافة دلالة تفضيل له على رعيته، بل أكد على وجوب تنبيهه في حالة الخطأ لعلمه بإيجابية وخيرية هذا التنبيه له ولأمته، فهو القائل "أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم فإن رأيتموني على حق فأعينوني وإن رأيتموني على باطل فسددوني أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم".

وتنقسم الأمة في موقفها من الحاكم إلى فريقين فريق يعارض الحاكم في الباطل والحق معارضة تامة وفريق آخر يخضع له خضوعا تاما في كلا الأمرين، فالأول لا يعترف بإنجازاته والثاني لا ينكر أخطائه ولا شك أن الأول يعاني من داء حب السلطة، فيما يعاني الثاني من الداء الأكثر استفحالا في هذه الأمة ألا وهو داء السلبية.

أما الفريق المعارض فيعمل على استغلال أول فرصة للانقضاض على الحكم بأي طريقة حتى ولو كان في ذلك دمار وطنه وتشريد شعبه، والمشهد العراقي دليل مثبت، فهو لا يجد حرجا من تطبيق نظرية ميكيافلي الشهيرة فالغاية لديه تبرر الوسيلة على الرغم من أن هذه النظرية تفترض نبل الغاية والذي قد يسوغ حقارة الوسيلة، أما الغاية هنا فهي غاية حقيرة كحقارة الوسيلة ألا وهي تحقيق المجد الشخصي وضمان المنفعة الخاصة.

وفي غالب الأحوال يكون الانقلاب العسكري هو القطار الأسرع للوصول للحلم السلطوي مع مصاحبته لانقلاب فجائي في المفاهيم، فبمجرد حصول انقلاب على حاكم معين من قبل طبقة رأت في هذا الحاكم تهديدا لمصالحها الخاصة لا لمصالح أمتها حتى يبدأ القدح والذم والشتم في هذا الحاكم المقدس بالأمس المدنس اليوم، مع العمل على تصويره على أنه الشيطان الذي لم تبدر منه أية فضيلة.

و تبدأ دورة التقديس من جديد لهذه المجموعة المنقلبة الذي سرعان ما ينتقل مع مرور الوقت إلى الشخص الذي يستطيع الانفراد بالسلطة، وتصفية رفاقه في الانقلاب فيولد عصر القطب الأوحد؛ القطب الذي سرعان ما ينتهي به الحال لنفس مصير الحاكم السابق.

نيلسون مانديلا كلفه  نضاله من أجل حرية شعبه 27 سنة من السجن والتعذيب، وعندما نجح  لم يعمر في الحكم  وخرج من الرئاسة بإرادته.

وقد نلاحظ هذا الشيء في شخصيات الثوريين العرب الذي ناضلوا ضد الاستعمار الغربي لبلدانهم، فالتاريخ يرينا أن بينهم صفة مشتركة، هي أنهم ما إن يحرروا بلدانهم حتى يبدؤوا بالاستفراد بالرأي وبالتنكيل بالمعارضين، وكأنهم يرون في الحكم الأبدي للبلاد وللعباد الجائزة الواجب تقديمها من قبل شعوبهم نظير ما قاموا به من مقاومة للمستعمر الغربي.

فننتقل بذلك من مرحلة الاستعمار الغربي إلى مرحلة الاستعمار الداخلي وكأنهم قد افتقدوا وجود العدو الأجنبي فجعلوا من شعوبهم أعداء لهم. وقد انتهى المصير بالكثير من هؤلاء القادة إلى السقوط ضحايا للانقلابات العسكرية التي قامت في كثير من الأحيان من قبل رفقاء دربهم النضالي، وذلك لتصميمهم على البقاء مدى الحياة في الحكم.

وذلك على عكس ما فعله نيلسون مانديلا، الذي جاهد من أجل استعادة حقوق شعبه المغتصبة بشكل كلفه 27 سنة من التعذيب في سجون نظام جنوب أفريقيا العنصري، وعندما نجح في إسقاط هذا النظام لم يفعل كما فعل الثوريون العرب بتعديل الدستور لمصلحته وإعدام معارضيه وتوريث أبنائه الحكم، وإنما خرج من الرئاسة بإرادته رغم المطالبة الشعبية الغير مشكوك فيها ببقائه.

وتغيير النظم لدينا لا يأتي من قبل الشعب نفسه وإنما يأتي من قبل مجموعة عسكريين يسارعون إلى إضفاء الصبغة الشعبية إلى حركتهم الانقلابية عن طريق الإعلام المضلل، بينما نرى أن التغيير في الدول المتقدمة يأتي من القاعدة الشعبية، التي لا تسعى إلى توجيه دفة الفائدة من التغيير لمصلحة شخص معين وإنما توجهه إلى تحقيق المصلحة العامة للشعب.

وقد تكون الثورة الفرنسية أوضح مثال على ذلك فهي لم تتم عن طريق عساكر وضباط الجيش الفرنسي، وإنما تمت عن طريق الشعب الفرنسي نفسه الذي تحرك متأثرا بآراء مفكرين تشربوا قيم الحرية والديمقراطية، وليست الثورة البرتقالية في أوكرانيا ببعيد عنا فقد كانت ثورة شعبية بدرجة امتياز رغم أنها لم تحقق كل ما قامت من أجله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.