شعار قسم مدونات

علاقات الـ"صِفر تكلُفة"

blogs - friend

بعيدًا عن الاستراتيجيّة الاقتصاديّة المعروفة باستراتيجيّة الـ"زيرو كوست" أو الصفر تكلفة، فإنّ هذا المُركّبَ اللُغويّ البسيط قد يحرّك في المرء تساؤلا معقّدًا حين يمرّ في باله؛ ففي ظلّ هذه القيود الكثيرة والأعباء التي تُفرَض على الإنسان، مادّيّة ومعنويّة، لمجرّد التعرّف على صديق جديد أو الدخول في علاقة جديدة، وحتى نثبتَ جدارتنا للآخر، نفقد جزءًا كبيرًا من طاقتنا. تساؤلي الدائمُ كان -وما يزال-: ماذا لو كانت علاقاتُنا خاضعةً لهذا النظام، ما الذي سيتغيّر؟
 

لا غروَ أنّ الإنسان عندما يرغب بالتعرّف على صديق جديد فهو يفعل ذلك ليسدّ فراغًا ما في روحه أو وقته، و أتّفقُ أيضًا مع من يقولُ بأنّ هذا قد يحدثُ دون أيّ سبب أو احتياج أو تخطيط، فالإنسان الطبيعيًّ اجتماعيٌّ بطبعِه ويميل إلى مخالطة الناس. لكنْ، في هذه الحالة لا تأتينا الفرصة لنسأل أنفسنا إن كان في حياتنا متّسع يكفي لإقامة شخص آخر على نحوٍ لائق. نستيقظ ذات صباح ونجد كلّ شيءٍ في مكانه، غيرَ أنّ شخصًا أو صديقا قد اقتحم عالمنا الصغير وشغلَ حيّزًا شاغرًا فيه. قد يكون هذا الحيّز كرسيّا دائمًا يقابلك على طاولة الطعام أو بروازًا على الحائط أو نبتةً في الأصيص. وعلى الرغم من اختلاف الحجم المشغول إلا أنه يظلّ جزءًا من المشهد؛ مشهدِ حياتك!
 

لمّ علينا أن نكونَ أيّ شيءٍ إلا أنفسنا في سبيل الاحتفاظ بالآخر؟ وكم مرّة سنشعر بها أنّنا لسنا جيّدين بما يكفي قبل أن نفقد أملنا تماما في البشريّة جمعاء!

أذكّركَ هنا قبل أنْ أُكمل أنّ لكلّ إنسانٍ الحقّ في الاختيار. من حقّنا جميعا أن نختار الأشخاصَ في محيطنا، أن نحدّد العمق الذي يمكننا أن نؤسّس فيه لتلك المُنشأة/العلاقة، ونحدّدَ حجم الأحمال التي يمكن لها أن تتحمّلَها، فضلًا عن الطريقة التي نُرسي بها ركائزَ حبِّنا واحترامنا للآخر حتى لا تنهار تلك العلاقة على رؤوسنا، وبنتائجَ كارثيّة.

كثيرا ما نسمعُ أنّ علينا أن ندركَ حتى نحصل على علاقةٍ آمنة أنّ اختلاف الشخصيّات يؤدّي حتمًا إلى اختلافٍ واسعٍ في طبيعة العلاقات وفي نوعيّة الاهتمام الذي يجب أن نسقي به تلك العلاقة حتى لا تذبلَ تحت ادّعاءات شُحّ الاكتراثِ وعدم المسؤوليّة. وتُضرَبُ لنا الأمثال: الشّخصُ الحسّاس سيحبّ أن تسألَه عن تفاصيل دقيقةٍ في يومه فذلك سيشعره بأنك تولي حبّه مساحةً كبيرة من اهتمامك، بينما سيجد شخصٌ منغلِقٌ ذلك مدعاةً للملل والتذمّر وربما يجده تدخّلا سافرًا في شؤونه الشخصية!
 

الشّخصُ الذي يحبّ المرح سيفضّل أن تكون مرحًا معه وكثير الضحك، ولا ضرر إنْ تصنّعتَ هذا الجانب فيك إن لم يكن موجودا حتى تسعده، بينما سيجد الشخصُ الجادّ ذلك سخيفًا وطفوليًا، لذلك يُفضَّل أن تكون معه متحفّظا قليلَ التبسّم، ولا ضرر إن تصنّعت هذا الجانب فيك إن لم يكن موجودا حتى تسعده هو الآخر! أضِف على ذلك كلّه مسألة الأعباءِ المادّية التي علينا أن نتحمّلها أيضًا، فسوف تجد بلا شكّ من لا يعتبرك صديقا جيّدا إلا إن كنتَ رفيقَ نشاطاته الخارجيّة، ونديمَ رحلاتِه وتسوّقه. ولا يسألُ نفسه للحظة إن كانت ميزانيّتك تسمح بذلك، أو حتى وقتك وظروفك.. والأمثلة كثيرة.

دعونا نتّفق أنّ مجرّد التفكير في هذا يجلبُ الكآبة، التفكير فقط، ماذا عن التطبيق! نتساءَلُ باستمرار: لمَ على مسألة طبيعيّة كالتّواصل بين شخصين طبيعيّيْن أن تكونَ محطًّا لكلّ هذه الدراسة المعقّدة والتمحيص؟ بل قل مئات الدّراسات والأبحاث! لمّ علينا أن نكونَ أيّ شيءٍ إلا أنفسنا في سبيل الاحتفاظ بالآخر؟ وكم مرّة سنشعر بها أنّنا لسنا جيّدين بما يكفي قبل أن نفقد أملنا تماما في البشريّة جمعاء! ليأتِ الخَلاص لنا جميعًا على شكلِ مركّبٍ بسيط: صِفرْ-تكلفة!

 

اسمع يا صديقي، لكَ حريّةُ التصرّف فيما شئت، وكيفما أردت، ولكنْ، بحقّ الله الذي خلقنا مختلِفِين.. لا تغيّرني.

علاقات الصِّفر تكلفة -كما أتخيّلُها في عالمي الموازي- هي علاقاتٌ قائمة على البساطة، على رضايَ عمّا أحبّه في الآخر ورضاهُ عمّا يحبّه فيّ، وقبل ذلك على تصالُحنا مع الذي لا نحبّه فينا. على القبول بأنّ لكَ سِلكا معيّنا في الحياة ليس من الضرورة أن تحيد عنه حتى تلتقي بي في سلكي الخاص. على احترام أنّ وقتك المحدود -كوقتي- يحتّم علينا أن نقسّم يومنا بين عمل ودراسة وحياة اجتماعية.. إلخ، وأنك لن تكون متفرّغا لي طوال اليوم متى ما شئت وأينما أردت.
 

هي علاقات لا تكلّفكَ إذن شيئًا من طاقتك، لا تُنفِقُ عليها حصّةً يوميّة من الخوف والقلق خشيةَ أن تُفهم على نحوٍ خاطئ كلما هممتَ بفتح فمك أو الإيتاء بحركة. أن تعطي لأنّك ترغب بالعطاء ليس لأنّ عليك ذلك أو لأنّ ذلك ما أريده منك، وأن يكون هذا العطاء على طريقتك التي تريحك: حبًا واهتماما ووقتا، لقاءَ أن تقبلَ عطائي بالطريقةِ التي تريحُني. أن نمارس بشكلٍ مستقلّ حبّنا لأشيائنا التافهة: هواياتنا، رياضاتنا المفضّلة وتذوّقنا للفنّ دون أن يقلّل أحدنا من شأن الآخر. ألا نثقلَ كواهلنا بالمزيد من الأعباء، ليس وقد لجأ كلّ منّا للآخر ليخفّف ما لديه منها! والأهمّ: ألا يحاول أحدنا تغيير الآخر باستماتةٍ شديدة وكأنّ السماء أرسلته لكي يقوم بتلك المهمّة المصيريّة! ببساطة أشدّ هي علاقات تقومُ على النّقيضِ تماما من كلّ العلاقات التي نخوضها ونسمع عنها..

أعرفُ أنّ هذا لن يُحدِث فرقًا، وأنّ صديقًا نرغبُ بالحفاظ عليه دون أن ننوء بالمزيد من الأعباءِ مراعاةً له على حسابِ راحتنا لن يكفَّ عن تحميلنا إيّاها، وسنتحمّلها -كما اعتدنا- في سبيله، لن يأخذ كلامًا كهذا على محملِ الجدّ أو التغيير، ولهذا الصدّيق تحديدًا -الذي نكونُه جميعًا للجانب الآخر من النّهر-، أقول "اسمع يا صديقي، لكَ حريّةُ التصرّف فيما شئت، وكيفما أردت، ولكنْ، بحقّ الله الذي خلقنا مختلِفِين.. لا تغيّرني".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.