شعار قسم مدونات

حين شارفتُ اليُتم!

blogs - hand old
كانت تمسك يدي باليد التي لم يَطَلْها الشلل بعد، تضغطُ بشدّة كأنّ يدي القشة التي تتمسك بها قبل الغرق. انتابتها فجأة رعشة في نصفها الأيسر، فأيقنتُ أنها الموت قصدتْ أغلى ما لديّ -أمّي-.

كنت أيامها قد أنهيت ارتباطي بكل شيء عدا المطالعة، وليلتها شدني كتاب حتى الثانية فجرا، أيقظتني أختي أوّل الصباح والدّموع في عينيها، تخبرني أن أمّي مريضة، وجدتها في منتصف الرواق جالسة على كرسيٍّ صغير، شاحبةَ الوجه كما لم أرها إطلاقا، أجلستها وأختي على سرير غرفتها بعدما أحسّت بثقل في أطرافها، ولم نكد نجلسها حتى تحول الثقل إلى شلل نصفي طال أطرافها اليمنى.

كانت أمي المسكينة تتمتم بالشهادة كما نملي عليها، وبين لحظة وأخرى توصينا على أخي الصغير الذي لم يبلغ السابعة بعد.

كنت أحاول أن أجد ما أقول لها حين أحسست ببرودة يدها، لكنني لم أفلح، كانت تقول لي بصوت مبحوح "لا تخف"، وتحاول بيأس أن تحرك يدها المشلولة كي تطمئنني، ولا تنجح!
 
لما راحت أختي تنادي على عمتي؛ شدت أمي على يدي بقوة، ولما بدأ جسمها بالتخبط أول مرة، كنت وحيدا معها، كانت تتلوى، لكنها لم تصرخ ولم يصدر منها ولو أنين خافت، دخلت أختي مفزوعة من هول ما تراه، ودون وعي منا، تذكرنا أن نلقنها الشهادة.

ما حدث، أن بعض الأعصاب في الفص الأيسر من دماغها انسدت لحظتها، كل شيء يحدث في داخلها، دون أن ندري، أو تدري هي ما يحدث! كانت المسكينة تتمتم بالشهادة كما نملي عليها، وبين لحظة وأخرى توصينا على أخي الصغير الذي لم يبلغ السابعة بعد.

بعد كل هذا صرت لا أقوى على أي شيء، أشد سبابتها إلى أعلى، أحاول أن أتذكر أي شيء لأقوله. لكنني بدل ذلك أتذكر أمي التي لم تمرض يوما، أهكذا يغادر من نحبهم!

قبل أن أقول أيّ شيء، تنفجر الدموع التي احتلمت في عينيّ طويلا، وأبكي كما لم أبكِ يوما.
فرشنا لأمي وبسطناها على الأرض فيما لم يعد من أمي غير زُرقةٍ مخيفةٍ في وجهها، وبعض شخير ينطلق من أعماقها بين فينة وأخرى.

أضحكوا أمهاتكم، ولا ترجوا في ذلك جنة، فكل حياة بعد الأمّ سعيرٌ مقيمُ!

جثوت على ركبتيّ وصرت أصفعها، أبكي، وأطلب منها راجيا: "أمّي، من فضلك عودي". بينما عمّتي ترش وجهها بعطر في محاولة يائسة كي تجعلها تفيق.
فجأة، انتفض جسد أمي، كانت غير واعية، وتحاول الهروب منا، نحن الذين نحيط بها، ولم تقبل الهدوء حتى تحدثت إليها وأختي.

أنزلناها، حتى الطابق الأرضي محاولين بجهد ألا ندعها تغيب عن الوعي مرة أخرى، ووصلنا خارج البيت، حيث كانت حافلة الإسعاف التي اتصلت بها في وقت سابق تركن أمام الباب، وسلمناها لأيديهم الأمينة.

عادت أمي سليمة إلى المنزل، لكننا علمنا أن عهد الطفولة قد مضى، نحن الذين كبرنا في لحظة، تنفسَتْ قِدر خوفي صعداءها، لكن لم تنمحِ مخاوفي بعدها إطلاقا. وصارت كل ليلة تنتهي بـ: ماذا لو؟

إلى لقاء آخر، أستودعكم أمهاتكم، فأحبوهنّ، أطيعوهنّ؛ لكن أكثر من ذلك، أضحكوهنّ، ولا ترجو في ذلك جنة، فكل حياة بعد الأمّ سعيرٌ مقيمُ!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.