شعار قسم مدونات

العرب والسياسة.. رحلة فشل

blogs-history

كانت السياسة في معظم فترات التاريخ الإسلامي أشبه بالشامة السوداء في البياض الناصع لحضارة الإسلام والعرب، فمهما بلغ المسلمون والعرب من توهجٍ حضاريٍّ في العلم والفكر والثقافة والعمران، تبقى الحياة السياسة في دولهم تموج بالصراعات والنزاعات والاضطراب والفساد.

وعلى مر القرون اختلفت شخوص الحكام، وتبدلت أنظمة الحكم، وتقسمت أقاليم الدولة، وتعاقبت الأيديولوجيات الحاكمة، ولكن الفشل بقي حاكما ومسيطرا! فقد حكم فينا العسكري والمدني، المديني والريفي، العلماني والإسلامي، الجمهوري والملكي، جرب الحكم من هادن الاستعمار وجربه من ثار ضده، ومع ذلك لم تتغير –تقريبا- نتائج هذه التجارب المتنوعة بين الفشل والكارثة!

أصبحت السياسة في أذهان كثيرين رديفا للصراعات والحروب والكوارث وقال بعض العلماء "

يقول الدكتور خالد الدخيل " في الماضي القريب كانت الشكوى من انحراف وعوار الاشتراكية والشيوعية والقومية، الآن باتت الشكوى من انحراف وخطورة الإسلام السياسي، وتحديداً "الإخوان". لم يتجاوز الأمر في الحالين حدود الشكوى والهجاء إلى – على الأقل – إتاحة مساحة لاجتراح منظومة فكرية وسياسية تقدم المناسب والأنجع، وهذا يعبّر عن مأزق حكم يعيد إنتاج نفسه من مرحلة تاريخية الى أخرى".
 

في كتابه الجميل "العرب والسياسة أين الخلل؟" يشير الدكتور محمد جابر الأنصاري لجملة من الأسباب التي جعلت الفشل السياسي عند العرب مرضا مزمنا لم يتم بعد –بحسبه- بحث أسبابه عميقة وجذوره الضاربة في عمق التاريخ بما يكفي من الوضوح والشفافية.

وكمقدمة لهذا البحث يتحدث الكاتب عن ظروف التاريخ والجغرافيا المسببة لهذه الظاهرة فتاريخيا عانى العرب من تسلط القوى الأجنبية الحاكمة عليهم -كالترك والفرس- لقرون طويلة، كما عانوا من انعدام استقرار الدولة بصفتها مدرسة السياسة لفترات طويلة، فكأن العرب اختاروا كلمة دولة للدلالة على كثرة التداول والتغير والتبدل بعكس المعنى الإنجليزي لكلمة "State" المشتقة من "Static" بمعنى الثبات والاستمرار.

ويستشهد على ذلك بكثرة تنقل عاصمة ومركز هذه الدولة كما لم يحدث لغيرها قط، فمن المدينة للكوفة لدمشق لبغداد لإسطنبول، وفي كل هذه الفترات كانت دويلات صغرى تقوم وتنهار في أمصار الدولة المختلفة. جغرافيا وعلى عكس أمم كالهند والصين، عانت الأمة العربية من تقطيع الصحاري والجبال لأوصالها.

وعلى عكس دولة قصية معزولة كاليابان عانى العرب من موقعهم الاستراتيجي المتوسط بين الدول والإمبراطوريات، فكانوا فريسة التدخلات والتأثيرات والأطماع الخارجية المستمرة. لهذه الأسباب الطبيعية وغيرها تتابعت الكوارث والمآسي السياسية في ذاكرة العرب حتى أصبحت السياسة في أذهانهم رديفا للصراعات والحروب والكوارث.

ووصل الأمر بكبار مفكريهم وعلمائهم للدعاء بـ"أعوذ بالله من السياسة، ومن لفظ السياسة، ومن ساس يسوس وسائس ومسوس .. " وللنصيحة " ألا تخالط الأمراء والسلاطين ولا تراهم، لأن رؤيتهم ومجالستهم ومخالطتهم آفة عظيمة .. ".

وبات العقل الجمعي العربي متعايشا مع واقع فساد الحال السياسي في الأمة فيروى عن المالكية قولهم: "من اشتدت وطأته وجبت طاعته"! ويحكى أن رئيس العسكر المملوكي سأل فقيه البلد وهو يحمل رأس السلطان المقطوع: من هو السلطان؟ فأجابه الفقيه: السلطان من قتل السلطان"!

وقد علّق محمد عابد الجابري رحمه الله على المقولة الشهيرة لمحمد عبده: "إنما ينهض بالشرق مستبد عادل" بقوله: ""مستبد عادل" يصنع بـالعدل ما لا يصنع بـالعقل، هل هناك تعبير عن شقاء الوعي وتمزقه إزاء مشكلة الحكم، الديمقراطية أوالشورى أفصح وأقوى من هذا التعبير الذي يجمع بين الاستبداد والعدل، ويجعل العدل في مقابل العقل؟"

إن تقييم الفشل السياسي في العصر الحديث يُبرز الدور المدمر الذي مارسه معظم قادة الدول العربية بفترة ما بعد الاستقلال بوضوح لا لبس فيه، فعندما ننظر للمستوى القيادي في عدد من الدول العربية الهامة وكيف وصل بها الفساد والإجرام والفشل لحدود جنونية، أودت بأرواح الآلاف من أبناء الأمة وأبقت الملايين منهم يعانون الفقر والعجز والتخلف.

فمن القذافي وابن علي في المغرب العربي وصولا لصدام وعائلة الأسد وعلي صالح وحسني مبارك في المشرق، يبرز بوضوح هائل كيف مارست هذه الأنظمة شتى صنوف الفساد والإفساد بحق شعوبها، فقد حكمت بالحديد والنار وانتقلت بدولها من الاستعمار الخارجي لحالة من الاستحمار -بحسب تعبير شريعتي- يمكن وصفها بالاستعمار الداخلي، حتى وصل الحال بالمواطن العربي بأن يكون وجوده في بلده يعني فقدان الكرامة والحرية والعيش الكريم، ولذا أضحت الهجرة للخارج هي الحلم الأكبر لنسبة كبيرة من الشبان العرب.

ولكن هذه الحقيقة الواقعة التي وصفها الدكتور خالد الدخيل بـ "أزمة حكم مزمنة" لا ينبغي أن تعمي عيوننا عن الأسباب الأعمق كتلك التي أشار إليها الأنصاري في كتابه الذي ألفه قبل عشر سنوات من أحداث الربيع العربي، والتي تبعتها موجات مما عرف بـالثورة المضادة أعادت للحكم –وبدعم شعبي لا يُنكر!- وجوها تمثل الدولة العميقة التي يفترض أن الثورات قامت عليها (السيسي، السبسي، حفتر).

لا يمكن إنكار أن أزمة السياسة عند العرب ليست مقتصرة على الأنظمة المستبدة بل تشمل النخبة السياسة بأكملها سواء تلك التي تحكم أو التي تعارض.

ولعل النجاح الملفت للأنظمة القديمة في العودة للواجهة ذكّر الحالمين بانتقال ديمقراطي سريع قد يحدث بمجرد إسقاط رؤوس الأنظمة المستبدة بأن الديمقراطية ثقافة وليست آليات، وأنه " لا ديمقراطية بلا ديمقراطيين" على حد تعبير الأنصاري.

ختاما أظن أنه علينا كشعوب عربية وبالأخص جماهير الثورات العربية، أن ندرك أن بقاء الوضع على ما هو عليه مستحيل بكل المقاييس، وأن لحظات الانفجار كما حدث في 2011 لن تكون متوقعة أو مأمونة العواقب والحدود، وأيضا نعرف أن التغيير الفجائي والسريع والفوري لرؤوس الأنظمة لن يقود للتحول الديمقراطي المنشود.

فلا يمكن إنكار أن أزمة السياسة عند العرب ليست مقتصرة على الأنظمة المستبدة بل تشمل النخبة السياسة بأكملها سواء تلك التي تحكم أو التي تعارض، كما تشمل الشعوب التي عادت بنفسها وساعدت على القضاء على التجارب الثورية.

وعلينا أن ندرك بأن ما هو أهم من إسقاط الأنظمة المستبدة أو إجبارها على إجراء بعض من شكليات وأدوات الديمقراطية (كالانتخابات وغيرها) هو إحداث تحول حقيقي نحو صناعة الدولة وتحقيق المواطنة بمفهومها الواسع والشامل بما تتضمنه من عدالة وشفافية، وسيادة قانون وبناء مؤسسات وعدالة اجتماعية وتداول سلطة واستقلال القضاء، ولتكن نقطة البداية هي نشر هذا الفكر في ثقافتنا السياسية التي تخشبت عند "وإن جلد ظهرك وأخذ مالك" و "السلم مقدم على العدل" و "إنما العاجز من لا يستبد" و "سلطان غشوم ولا فتنة تدوم"! والسلام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.