شعار قسم مدونات

لا تخبروني

blogs - Aqsa Martyrs
كان مجد يدمن القهوة بكل ما أوتيَ من شغف خفي، صباحات تخلو من كؤوسه المصطكة؛ صباحات لا خير فيها ولا حب..

كان مجد يكثر من الاستحمام، مهووسا بنظافته الشخصية على قدر هوسه وتمسكه بالبعثرة والعشوائية التي كانت تثير حفيظة أمه..

كيف تمر قصصهم على أسماعنا كأنها تحية صباحية تنقضي مع الوقت الملعون! كيف تستحيل الكلمات وبحة الصوت إلى ذكرى صامتة في قلوب المحبين؟

مجد لم يكمل تعليمه، كان يمقت الالتزام والتقييد بكل ما أوتيَ من ثورة.. رسوماته على الحائط كانت تدفع أمه للصراخ، وتدفعه في كل مرة إلى تقبيل رأسها في خضم غضبها الحنون منه..

كثيرا ما خصني بأحادثيه الفارغة المحتقنة، كثيرا ما كان يضربني بفلسفته الصاخبة وكأن مطرقةً وقعت على رأسي من فوق ففجرته دماءً ودموعاً..

كان مجد شغوفا بالمشاكل، يترأس المصائب بشيء من الشقاء اللذيذ الذي طرق به قلوبا كثيرة، عجزت عن رفع صوتها عليه.  

لمجد قطة أسماها "فخرية"، لا أدري لغاية الآن ماذا قصد من هذه التسمية، وكيف تقبلت "فخرية" الشقراء هذا الاسم، واندست في حضنه تختبئ؛ هادئة معلنة السلام والاستسلام..

قليلا ما يتواجد مجد على موائد العائلة، قليلاً ما يعود إلى البيت مبكرا، قليلا ما يكتب الشعر، قليلاً ما يذرف الدموع، قليلا ما يتكلم بهدوء، قليلا ما يعتذر..

مجد لا يحب الشاي، ولا يحب إلقاء السلام على المارة.. مجد يحب النثر، يمقت الشعر، حاضراً في كل جنازة، شاهدا على كل فرح، بعيدا عن أعين الناس، على مرأى من الجميع، على الوسائد المبللة، في ليالي البرد الجافة، جمع مجد تناقضاتٍ لم نفهمها..

مجد يكره السفر، يهوى الاستقرار المجنون بغرابة، يتمسك برأيه ولو على قطع رأسه، يرمي الكلام بسلاسة جارحة، يحب الوطن ويكرهه كرها لطيفا..

لمجد سروال أسود معلق على حافة الخزانة في معظم الفصول، يستخدمه لمسح الألوان المتناثرة على الأرض.. لمجد فتاة يحبها، يتجاهلها؛ ويحبها مرة أخرى.. لمجد ابتسامة سمراء طائشة؛ تشعل القلوب ولعا وحبا، تخطف الأنظار، وتستملك الأرواح بطرفة عين..

مجد يبكي كثيرا في سره، يشعر بنقص لا اكتمال معه، يحب الموسيقى ويهوى العزلة بعنف عجيب..

كيف يستحيل مجد بين رصاصة وهواها إلى خبر عابر؟ كيف يستحيل الوطن بين صرخة ومداها إلى سجنٍ كبير؟

"ليش تركتنا يا خاي"؛ كان تعقيب خليل أيامه على صورة له على فيس بوك زينت خبر استشهاده..
كل التعليقات على موته كانت بخيلة، كل الإعجابات والتفاعلات كانت غير ذات قيمة..

كيف لمنظومة إنسان كهذا أن تُخْتَصرَ في بضع كلمات تنهي وجودها وتعلن الخلاص؟!
كيف لا تتوقف الساعة؟ كيف يتابع الوقت دورانه المقيت؟!

كيف لهذه الروح أن تنسى؟ كيف للعيون تكف نفسها؟! كيف للقلوب تشرح وتستفيض؟!
كيف تستحيل المساءات ذكريات هاربة؟! كيف تبقى الأشياء معلقةً ومجدا لم يعد موجودا؟

كيف سيصبح منسيا ككل قصة؟! كيف سيشفى غياث وأحمد ونزار؟! كيف ستشفى أم مجد؟! ماذا سيحل بفخرية؟ ثيابه.. خربشاته على الجدران؟

أكلته المفضلة ودرج أسراره؟ أستغرب في كل مرة أقرأ فيها خبر استشهاد "أحدهم"؛ كيف يتحول الإنسان بين قذيفة وضحاها إلى مجرد رقم خجول أو مادة فيسبوكية تستقطب الإعجابات!

كيف تمر قصصهم على أسماعنا كأنها تحية صباحية تنقضي مع الوقت الملعون! كيف تستحيل الكلمات والهمسات وبحة الصوت إلى ذكرى صامتة في قلوب المحبين؟ كيف تُختَزل الحياةُ في صورة؟

كيف يستحيل مجد بين رصاصة وهواها إلى خبر عابر؟ كيف يستحيل الوطن بين صرخة ومداها إلى سجنٍ كبير؟ كيف أصبح "منصور" أحدهم!

كيف وكيف وكيف..
لا تجيبوني!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.