شعار قسم مدونات

كفاك عيشا بالمثاليات

blogs - stop sing road
في كل مرة أحاول أن أفهم وجهة نظر الآخرين الذين ينصحونني بأن أتوقف عن العيش بالمثاليات أفشل، فأنا أعتبر هذه النصيحة هي دعوة صريحة لي بمخالفة ما أؤمن به، وهي دعوة خطيرة تطالبني بأن أتوقف عن الحياة، هكذا بكل بساطة.

المثالية كما آمن بها أفلاطون في المثالية الواقعية تؤكد على وجود عالم بذاته من المثل يقع خارج فكر البشر والأشياء، والمثالية المطلقة كما يراها هيجل هي تماثل بين الفكر والواقع، "فكل ما هو عقلي واقعي وكل ما هو واقعي عقلي".

لعلك ممن يحبون أن يتمثلوا دور الضحية المغلوبة على أمرها والتي لا تملك أية قدرة على الاختيار، وهذا عذر أقبح من ذنب

أما بالنسبة لي وبكلماتي البسيطة غير المعقدة؛ أن تؤمن بالمثاليات يعني أن هناك غاية عليا ومنظومة قيمية سامية تسعى جاهدا للوصول إليها..

أو ليس هذا هو لب الحياة وأملها الذي من خلاله ومن أجله نستطيع أن نصحو كل يوم في الصباح، لنحقق ما اتفق على تسميته علماء النفس والفلسفة غايات تضفي على حياتنا معنى؟

أليس يدخل في ذلك أيضا كل ما ينادي به مناصرو التفكير الإيجابي ومشجعو خلق الإرادة الحرة في فعل إحداث التغيير، القائم على أهمية وضع الفرد لنفسه أهدافا صغيرة مرحلية يصحو كل يوم من أجل تنفيذها والانتهاء منها لتعبد له طريقا يصل به إلى الأهداف والغايات الأسمى التي يطمح إلى تحقيقها؟

أليس ذلك ما نفني به أعمارنا كآباء وأمهات لنغرسه غرسا سليما طيبا في شخصيات أبنائنا الغضة ونطمح في أن نراه سلوكا حيا ظاهرا في تفاصيل حياتهم؟ أليست هذه هي التربية التي تتبارى في حمل شعاراتها كل المؤسسات التي تعنى ببناء أفراد يتمتعون بحس إنساني صالح؟ أليست هذه هي مبادئ جميع الأديان التي أنزلت لتأخذ بيد الإنسان لترفعه مقاما عاليا دون سواه؟

يقولون لك هذا ليس الواقع، أنت تعيش في الخيال، قد ينزعجون من تفكيرك، وقد يخفون في داخلهم سخريه ما، إذ يعتقدون أن الحل يكمن في أن تهبط مما يرونه برجك العاجي لتعيش الواقع كما هو دون مثاليات، لكنك هناك ومن برجك العاجي ترى وتعتقد شيئا آخر، تؤمن بأن من يصنع التغيير مهما كان بسيطا ليس من ينخرط بما هو موجود، ليس الذي يرضى بأن يكون جزءا من تلك المعادلة الخاطئة، وهو الذي لا يرى أبدا أن ما يسود الناس بالأغلبية يعتبر صائبا. 

وقد قال الله تعالى في تنزيله الحكيم هاديا ومرشدا لنا في هذا الأمر: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ، إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ). وقال سبحانه ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِين).

أن تؤمن بشيء يعني أن تتمسك به، أن تدافع عنه، أن تقف في وجه أعتى العواصف التي لن تيأس ولن تتوانى في ركوب أي موجة لتطيح بإيمانك أرضا دون أسف.

من يحيا بمعتقدات راسخة وضاربة في الأرض جذورها، لا يستطيع أبدا الاستسلام والتفريط فيها بسهولة

أما أن تكتفي بتمني الوصول للمثاليات مع استسلامك للأمر الواقع والسائد دون اقتناعك به، فذلك يعني ركونك للحل الأسهل والأخف حملا على كاهلك وضميرك، ابتغاء تحميل وزر ما تقوم به على شماعة الجموع المجتمعة على شيء واحد وإن كان ضلالا واضحا، محاولا بكل مكر أن تتحلل من مسؤوليتك الفردية كمخلوق مستخلف على هذه الأرض، أو لعلك ممن يحبون أن يتمثلوا دور الضحية المغلوبة على أمرها والتي لا تملك أية قدرة على الاختيار، وهذا عذر أقبح من ذنب، إذ يخفي بين ثناياه سلبية مطلقة لا تلبث أن تؤرق مضجعك.
أقادر أنت على مواجهة نفسك بصدق بعد ذلك!

قد يقول قائل هذا طرح مبالغ فيه، بالعكس أنا لا أدعو هنا إلى التزمت والعناد فيما نعتقد، إذ أرى أهمية المرونة في الحياة، ومزايا اللين، والكلمة الخفيفة اللطيفة على القلوب، والأسلوب المحبب في استثارة العقول، وأستطيع أن أستبصر النتائج الفضلى لكل ما سبق وأشجعه طريقا يوصلنا إلى ما نصبو إليه. 

لكن وجود معتقد واضح في داخلي كمنارة مضيئة أسترشد بها يشعرني بمعنى الحياة، إذ يمنحني قوة وأملا لوضع أهداف صغيرة أصحو من أجلها كل صباح، وطرقا تتسم بالجمال والمحبة واللين تؤلف بين القلوب على اختلافها وتعينها على الاستمرار، ومثاليات عميقة تتمثل في غايات سامية أنحت الصخر من أجل تحقيقها.
 
وصدقوني من يحيا بمعتقدات راسخة وضاربة في الأرض جذورها، لا يستطيع أبدا الاستسلام والتفريط فيها بسهولة، لأنها تمثل بصمته الخاصة في هذا العالم.

أرجوكم أحبائي توقفوا عن نصحي قائلين "كفاك عيشا بالمثاليات"، فأنا لا أستطيع وببساطة لا أريد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.