شعار قسم مدونات

سأبيعُ سعادتي..

blogs - person

حققّ حلمهُ أخيراً وأضحى غنيّا لا ينقص ماله من إسراف، عاش متنعمّـا بكنوزٍ لا يقدر على حمل مفاتحها أولو القوة من الرجال، عاش كذلك بقية عمره ومات مكموداً حزيناً لا يعرف الفرح إلى قلبه طريق.
 

بعد التحقيق والتدقيق في دواعي هذه التعاسة التي أصابته، وُجد أنه كان قد باع خلاياه الحسّية المسؤولة عن السعادة، باعها لمن أورثهُ المال والحزن، أبدل كافة أرصدته البنكية ببضعٍ من خلايا، ومات هو الآخرُ فقيراً ولكنه سعيد.
 

كانت تجارة الخلايا هذه رائجة بشكل كبير، وتعرّض السوق العالمي لطفرةٍ بسبب تبدل رؤوس المال وشخوصهم، فأمسى فقراء الأمس أغنياء، وأصبح الأغنياء معدمين لا مال لهم.

كان هذا الاكتشاف ثورةً في عالم الطب، معرفة الخلايا المسؤولة عن الشعور بالحزن والشقاء واستبدالها بأخرى حيّة تجلب البهجة والسرور، لم يكن العلماء يومها قادرين على زراعة هكذا خلايا في المعامل المختصة، كزراعة الأنسجة مثلا، ولكنهم كانوا قادرين على نزعها من جسم إنسانٍ يتمتع بوفرةٍ منها وزرعها في جسمٍ آخر فاقد لها، كما هو الحال مع زراعة الأعضاء ونقلها.
 

ويا للغرابة، اكتشف الأطباء أن الفقراء من الناس يتمتعون بوفرةٍ من هذه الخلايا الضاحكة المطمئنة، حيثُ أن لنوعية الطعام والشراب تأثيراً مباشراً على تكاثرها وازدياد أعداها.
 

كانت تجارة الخلايا هذه رائجة بشكل كبير، وتعرّض السوق العالمي لطفرةٍ بسبب تبدل رؤوس المال وشخوصهم، فأمسى فقراء الأمس أغنياء، وأصبح الأغنياء معدمين لا مال لهم، وقلّما تجدُ فقيراً على وجه البسيطة، إذ أن الأغنياء طاردوهم في كل مكان وشبر، بُغية الحصول على خلاياهم المنبسطة فطرةً، واستبدالها بما يملكون من أموال وخلايا مضطربة جافلة.
 

كذا الأمر مع شركات الملابس والأطعمة، أصبحت تدرس تحوير الخلايا المتخصصة في الذوق، وجعلها متناسقة ومتكيفة مع ما يصنعونه من منتجات، فتشابهُ الأذواق فيه رواجٌ لسلعها وبوارٌ للمنافسين.
 

في ذلك الوقت تنبأ الفقهاء بوقوع الساعة وقرب إعلان قيامها، وآخرون قالوا إنّه زمن الحق والعدل، وسابقون لا تعلمونهم ولا نعلمهم، أفادوا بكشف الحُجب واستجابة الدعاء، فتحقق لفقراء العالم ما أرادوا من غنى، ونشطاء وسياسيون ومحللون حللّوا ما حرّموا سابقا كعادتهم وأباحوه، بُغية الحصول على هذه الخلايا.
 

بالنظر لهذه القصة المحللة مسبقاً، وفي خضم هذا الهرج والمرج قررت ن أدلوا بدلوي في المسألة، عسى أن يخرج مع الماء غلامٌ جميل الوجه مليح الصورة، يكونُ على نهج نبيّ الله يوسف، يـُفتينا في ازدواج المعايير، وغلبة المستضعفين، وفقه الثورة والمختلفين، وقهر الرجال وقتل الأطفال وسط صمت إخوة الدم والدين.
 

يقول لنا أن القتل قتلٌ فيه إزهاقٌ للأرواح، حيث أن دم الأبرياء واحد، أحمرٌ قانٍ لونه، يجلب غضب الرحمن ومقته، لا يبرره إلاّ شخص منقوص المروءة، جبُن عن الفعل فباركـه، وهو مشاركٌ في الجرم بتبريراته مدفوعة الثمن وصمته المهين، يكشف لنا عن إمكانية زرع خلايا بشرية، تعيد للإنسان آدميته، تجعله يحسّ ويشعر ويألم، كتلك التي استبدلها الأغنياء بأموالهم، أن يفتنا في أزمة النخبة المتأثرة بالرياح الموسمية، المنحازة لمن يدفع أكثر، وقل لنا بربّك أي زمن هذا الذي يقتل فيه الأطفال بذريعة الإرهاب؟ وأي عالمٍ منقوص المروءة الصامت على دكّ البلدان وتهجير شعوبها ؟
 

خلاياك الحسية تُشعرك ببرودة الطقس وحرارة الجو، حتى تُدرك الفرق بين الشتاء والصيف، هي المسؤولة عن نشوة المتع، ولذة النكهات، وأرِج العطور الفوّاحة، وتُشنفُ آذان السامعين طرباً، كما أنها تُشعرك بحرقة النار ولهيبها وآلام الجروح وأوجاعها، الخلايا المتوزعة على كامل سطح بشرتك مسؤولة أيضا عن إحساسك بالعذاب إن كنت من المغضوب عليهم ومن الضالين، كلما نضج جلدك أُبدلت بغيره لتذوق ألم الظلم وغصة المقهورين، مضافاً إليه عذاب لأقبل لك به.
 

بهذا القول حذّر مني صديق، واتهمني بالإفراط والتفريط، وقال بأنني علمانيٌ زنديق، مبتدعٌ أفّاق، بتحريضي على هذا، وإحيائي لخلايا ما كان لها العيشُ يوماً، ذلك أن السلبية وقلة المروءة هي الأحق بالدعوة لها، وأن ما قلته آنفا بخصوص الخلايا الحسية ما هو إلا محض افتراء.. صدق وهو كذوب.
 

فما الفرق بين الشعور والحس إذاً؟ وما إمكانية زرعُهما في جسم إنسان؟ كما أنه في حال نجاح هذه التجربة، ما مدى إمكانية التخلّق بالشجاعة والصدق وباقي الفضائل جبلّة؟
 

خلاصة البوح وختام القصة أن المعاينة اليومية المتكررة لأخبار القتل والتشريد جعلت منّا أقل تفاعلاً وإحساسا، فلا نتأثر بموت طفلٍ دُفن تحت الأنقاض حيّـا، ولا بإبادة قريةٍ خنقها "غاز النابالم"، ننامُ قريري العين دونما أن ينبض لنا عرق، دونما شعور، فهل لنا بخلايا حسية تردّنا آدميين؟..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.