شعار قسم مدونات

رسالة من رفيق قديم

blogs - human
آخر ما تتوقعه سيدهمك، والرفاق الذين فرقت بينك وبينهم الأيام سيتعرفون عليك حتى وأنت في ثياب المهرج، ذلك أنك آكلتهم وشاربتهم زمنا طويلا لا يسمح فيها لذكرياتك لديهم بالتسرب، وأنت تترك أطلالا وراء ظهرك فتزورك خيالاتها في أطلالٍ أخرى، وهكذا كل شيء يعيد نفسه أمامك، وتكرر اللقطات عرض نفسها أمامك في تكرار لا يمل وإن مللت.
 

وأنت سائرٌ حتى وإن توقفت، ذلك أن العمر ينزلق بك على طول الدرب جبرًا، وفي هذا إجابة لسؤال إيليا المطلسم: أأنا السائرُ فيه أم الدربُ يسير؟. والدرب يقدم لك مفاجآته بلا تحفظ، في أحيان تكون كصفعة، وأحيان كلمسة الأمومة الحانية في ليالي الحمى. أنت لا تعرف ماذا تنتظر، أسرورا أم شوطا للبكاء!، وحين تُسَلِّم أنت بهذا، تسْلَم من دواعي الغرور وموجبات القنوط، وتصير في حلٍ من أسر اللحظة الآنية، وتذكّر نفسك دائما بقولك: "هذا الوقت سوف يمضي".
 

البعاد الطويل يجعل كل صورة ضبابية، حتى لا تبقى سوى ذكرى شبحية للماضي وللماضين.

هل تعثّر بي في طابور انتظاره، أم تعثرت به؟ لا يهم، ذلك أننا جميعا منتظرون شيئا ما يشبه التعثر. إن الحياة ما هي إلا انتظار طويل، لحب أو رفقة، أو صدفة أو موت. طقس الانتظار يعرفه الصيّاد الكامن والسجين الهزيل والمسافر الذي انعدم زاده، وهم يعرفون ما ينتظرون بلهفة، أما البشر في عاديّتهم الرتيبة فإنهم بانتظار ما لا يعرفون.
 

وقد كنت على وفاق مع الذاكرة حتى عادتني من قريب، وكنت أستدعي الوجوه والأسماء والأحداث منها كما يُستدعى الماء من فم القربة، وقد تغير هذا في جانب الأسماء فبدأت أنساها بشكل منكر، ويفوتني استحضارها في وقت الحاجة، وهذا ليس فقط في حق الذين مروا بي مرور المسافرين في المطار، إذ أنه شيء عادي، وإنما أولئك الذين يسبب نسيان أسمائهم حرجا بالغا، وخدشا في زجاج الحميمية لا يمكن جبره، وعلى هذا فقد أبدلت كلمات بكلمات، وأسماء بأسماء، في نداءاتي للرفاق القادمين من أقصى حدود الذكريات: كمرحبا بالحبيب، وأهلا بالرفيق، وحياك ربي يا صبيح الوجه !
 

وهكذا فعلتُ حين برق الجوال برسالة كانت لا تحمل اسما لصاحبها، ولا أدري حتى اللحظة كيف تمكن بدوره من جلب رقمي. كانت رسالة ود يبدو أنها ممن جمع بيني وبينه حمقٌ وضحك وطفولة، وكانت موجهة باسمي، مفرطة التحيات، بديعة الصياغة، فحاولت أن أعيد ذكرى صاحبها لنفسي بتملي صورة العرض لديه، لكنها كانت لشخص مسن مذيلة بالدعاء له بالرحمة، وقد خمّنت أنها لأبيه، وكنت محقا. ويبدو أن حرجا من هذا النوع يمكن شمه عبر الأثير، فعاجلني صاحبي باسمه، راميا في حجري بطيوفٍ وخيالاتٍ أيامها بعيدة.
 

عرفته في عرض الطفولة، حين كانت الرؤى أكثر تفاؤلا، وقصص النوم تنتهي بنهاياتٍ سعيدة، وكنت معه وجملة أخرى من رفاق قدماء نكوّن عصبةً في المدرسة سيطرت على دوري كرة القدم، ونشاطات الإذاعة المدرسية، وزعامة المسابقات الثقافية.
 

وفي بضع سنين تراكمت المواقف وازدحمت الذكريات، وظننتُ أن صداقة مماثلة لا يمكن لها التلاشي، غير أن البعاد الطويل يجعل كل صورة ضبابية، حتى لا تبقى سوى ذكرى شبحية للماضي وللماضين.
 

ودعته آخر مرة عند باب المدرسة في ختام المرحلة الابتدائية وداع من لا يقيم للفراق اعتبارا، وقد اعتدنا وداعات مماثلة لست سنين حتى جاء ذاك الوداع الأخير. وأثناء الإجازة، انتقلتُ أنا لمدرسة أخرى للمرحلة المتوسطة، وعاد هو مع عائلته لليمن لكي يباشر والده تجارته هناك، كما عرفت لاحقا.
 

وحين انتظم سير الحديث بيننا وانتهينا من الكلام الدبلوماسي، سألته عن حياته وعن أبيه الذي يبدو أنه توفي مؤخرا، وقد ذكر أنه عاد مؤخرا لجدة، وله ولدين أحدهما باسم والده الذي قضى شهيد كرامة وشرف.
 

كان رفيقي يغالب حزنه وهو يحكي عن أبيه، مات أبوه ولم يمت، وانتهت قصته بنهاية مفتوحة كسؤال يبحث عن إجابة.

روى لي عن والده، وكيف كان في دكانه حين سمع بهيعة الحرب، وحين تسرب الحوثيين من كهوفهم نحو مراكز الحضارة، ممزقين صيغة نهائية لتوافق وطني بين اليمنيين، ضاربين عرض الحائط بأحلام شعب كامل، في سبيل أوهام سلاليّة تنتمي إلى عصور بائدة.
 

ولم يكن والده ممن يصم أذنيه عن نداء الوطن، فلبس عمامة الحرب والتحم بالهمجية في الهيجاء، ونازلها مع رفاقه أشد النزال في كل ثنيّة ووادٍ، وحين كانت رجله تتعب كان يغرسها في الأرض فيثبت كشجرة، وحين كان ينعدم الرصاص يهز يده فتصير سيفًا من وطنيا مضيئا.

لكن البطولات لا ترد المنيات، هكذا يقول القاصّون من عهد أخيل إلى خالد، وكذا مع أبيه، حين سقط مضرجا وهو لم يفلت الراية، يومها تمنى الوادي لو كان قبره، غير أن رفاق السلاح دفنوه في قمة جبل حتى يستأنس بأضواء النجوم في رقاده البرزخي.
 

كان رفيقي يغالب حزنه وهو يحكي عن أبيه، مات أبوه ولم يمت، وانتهت قصته بنهاية مفتوحة كسؤال يبحث عن إجابة، أما أنا فإضافة لمزاجي الاحتفائي بهذا الرفيق القديم، كان قد مسني حزن شفيف على أنني لم ألتق بوالده من قبل، ولم أعرفه سوى معرفة بيان لا عيان، وفي ذلك فوتٌ عظيم، إذ قد لا يتسنى لك أن تعرف بطلا حقيقيا كهذا البطل العظيم -رحمه الله-.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.