شعار قسم مدونات

مَفْهوم السَّعادة.. حِصَانُ طَرْوَادَة

blogs - happy
لَعَلَّكَ تَضْطَرِبُ وَتَتِيهُ حِينَ تَقْرَأُ فِي كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ التَّنمِيَةِ الذَّاتِيَةِ أَوْ شَرِيطٍ تَحْفِيزِيٍ عِبَارةَ: "كُنْ سَعِيداً".. فَتَتَسَاءَلُ وَقَرَارَةَ نَفسِكَ: أَينَ سَعَادَتِي؟.. فتقف وتُقلِّب النظر، وتَدخل في جلسةِ تقصٍ مع نفسك على أمل أن تعترفَ لك فتبوحَ وتُصارحَك بمكنوناتها الخفية السرية حول مفهومها للسعادة، والتي تطالعك بها من آنٍ لآنٍ، وما تفتَـؤُ تَندَسُّ خلفَ أسوارِها وتغيبُ حتى إشعار آخر؛ فتطلعَ في زيٍ آخر مغاير جذريا لما ظهرت به آنفاً.. وقد تخبو حتى تنعدم، وقد تأمرُ اليأس بعدها أن يطلع مُترَنِّما يضرب على كل الأوتار..

إذن؛ لا مِراء أن السعادة غاية، يتوسل إليها بمطايا تُركب، لكن الذي فيه كل البون والمراء هو هذه المطايا، فكلٌ ومطيته، وكل يختار هذه المطية وينتقيها حسب تصوره للسعادة، والتصورات متباينة، وكلٌ وسعادته، وقديما قال أهل الأصول: "الحكم عن الشيء فرع عن تصوره"..

يسعى الإنسان دوما ويعمِد إلى انتهاك كل الحواجز، والتشبث بأي خيط ليَضمن سعادته، وقَد خُلِق الإنسان هلوعا..

ولعل أكثر ما يؤرق البشرية جمعاء–أفرادا وجماعات- هو بحثها عن السعادة، وهذا دأْبُ البشر مُذْ بدءِ الخَليقَة. قتلَ قابيلُ هابيل بغيةَ الظَفَرِ بالأخْتِ الجميلة ليعيش في سعادة.. وفرعون أتى على سيل منَ الصبية خوفا على مُلكِه من أجل سعادة، والنجاشي أثنى عنان بصيرته عن الحق واعتناق الإسلام حين خالفته رعيته خوفا على ملكه من الزوال، بل خوفا على سعادته.. وهكذا دوماً يسعى الإنسان ويعمِد إلى انتهاك كل الحواجز، والتشبث بأي خيط ليَضمن سعادته، وقَد خُلِق الإنسان هلوعا..

ولسوء الحظ، كل هؤلاء ومن لَفَّ لَفَّهُمْ، أخطؤوا السعادة بسهامهم، وهي بدورها أخلفتهم موعدها، لتأخذَ العِبرَةُ بتلابيب آذاننا وتشنِّف مسامِعَنا بصوتٍ خفي يسمعه من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد: "احذر منِي.. فأنا كحِصان طروادة".

لتتَّعِظ وتعتبرَ أذُنٌ واعية، ويعلمَ عقل حصيف أن السعادة متفرقة السبُل، منها المُنجية، ومنها المُهلِكة، و﴿يَومَ يأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إلاَّ بِإذْنِهِ فَمِنْهُمْ شقِيٌ وَسَعِيدٌ﴾. والشقاء نتيجة حتمية لسالك السبيل المُهلِكة نحو السعادة، لأنه لا يُتصَوَّرُ امرؤ يختار أن يكون شقيا طوعا، بل يُساق إلى شقائه بسوء تدبيره..

وللأسف الذريع؛ الواقع يشهَدُ انزلاقاتِ الأقدام وخطوها نحو السبُل المحظورة، لا أدري إن كانت القلوب لم تتعظ أو الآذان لم تعِ، أو لرُبما –وهذا الراجح- أن هذه السبل كانت كجنة المسيح الدجال ونارِه، فاغتر الناس بإشهارات وتسويقات عُلِقت على أبوابها، فكان السالكون الهالكون أكثر من النّاجين..

فيا من تصور سعادته في المال، أعد جلسة تقصٍ أخرى مع نفسك؛ فإنها اعترفت كذباً، لا تكن غِراً، ولا تدعها تخِبّك، كن محققا ذكيا، واستفزها بالسؤال: هل السعادة غاية أم وسيلة؟

لا شك ستجيبك: غاية. لأنها لن تستطيع المراوغة في البديهيات، بعدَها اطرح السؤال الثاني: وهل المال غاية أم وسيلة؟ هنا احذر؛ قد تسارعك بالجواب لتُعَمّيكَ: غاية كذلك.

عندها كن حريصا، فأنت تعرف حكاية الملك ميداس، وفرعون، وقارون.. ورُدَّ بكل هدوء: الغاية منتهى، والمال أرقام، وليس للأرقام منتهى.. وحين تُطَأطِئ رأسها مخذولة، قم بكل شراسة، اقلب الطاولة وصفِّد يديها وزُجَّ بها في زنزانة منفردة حتى تَنفيذ حكم الإعدام. أعد ترتيب الطاولة وهذب ملابسك، خُذ نفسا عميقا مع رشفة قهوة ساخنة وابدأ من جديد تقصيات أخرى.. وأنا متأكد بيقين تامٍ بأنكَ سَتَكلُّ وتَمَلُّ من كثرة قَلْبِ الطاولات وتصفيد الأيدي والزج في الزنازن، ومتيقنٌ كذلك بأنك ستكشف بعض المغالطات والتدليسات بسرعة وجهبذة حادة لواهيتها ووهنها، كما ستتعجب وتسخر من بعض الاعترافات الساذجة، كتلك النفس الدجالة التي تضع على باب السبيل المُهلكة صورةَ سيارة فخمة أو منزل خلاب أو حتى غانية..

لكن في لحظةِ فقدِ أملٍ ويأسٍ أَخَذَ يَتَجَذَّرُ رويداً؛ وأنتَ لا زِلت تحبِس صفحات كُتيبك وتعصرها واضعا سبابتك فوق "كن سعيدا".. وتُهْتَ تُسَائِلُ وتتقصى، إذ قَبَعَتْ فِي الجِههَ الأخرى من الطاولة وهي تَستَعِدُّ لجلسة التقصي والاستنطاق، سَـتُشَلُّ حركتُك.. لأنه لا يمكن أن تستسيغ بأن مثلها محلُه هنا، هدِّئ رُوعُك قليلا عما كان عليه، وواجبك العملي فرض عليك أن تَسْلُكَ معها السبيلَ نفسه الذي نهجته مع الأخريات، ولولا كذلك لكنت خَلَّيْتَ سبيلها ولم تكثرت، -وأَصْحَابُ الجَنَّةِ كُلُّ ضَعيفٍ-..

ولأنكَ درَستَ السميائيات، ووهبك الله شيئا من الفراسة، اختصرت المسافة ولم تطرح عليها كل ذاك الزخم من الأسئلة التي مهدتَ بها للأخريات قبلها، لربما عرفتها لا تقوى على الإجابة أو لعله العياء أخذ منك وتحسَّرت لانعدام النتيجة فأردت أن تُقْصيها بسرعة وتملأ المكان الوحيد المُتبقي في إحدى الزنازن، فطرحتَ آخِرَ سؤالٍ يُمكنُك طرحه، والذي فشلَت كل الأخريات في الوصول إليه "أين السعادة؟" وعلى عكس منطقِ "المُرتقَبات يُرجى حُدُوثُها"، أخطأ حدسُك، وعلمت أن السمياء لم تُسعِفك جيداً.. فقد هزَّت رأسها بِتؤدةٍ وأومأتْ به ناحيتَك، انتظرتَ جوابها فلمْ تنبُس، عاودتَ السؤال فعاودَتْ الإماءة، فكرتَ لحظة بأنها خرساء، لكن خَيَّبَتْ أملكَ وأكدتْ لك بأنك لازلتَ مُبتدِئاً في السميائيات، فأجابتْ: أنتَ.

تَعَجَّبْتَ مِن الرد، وأخذت تلتفث إلى جوانِبك تبحثُ، أرقكَ الأمر فَهَمَمْتَ بطَرحِ سؤالٍ آخرَ؛ لكن اقتلعتكَ مرة أخرى من دوّامتك، ولعلها رمتكَ في دوامة أخرى قائلة  ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبصِرُونَ﴾، صمتتَ قليلا تتأمل وتسترجعُ بعضَ أمَلِكَ الضائع، ثم نبستَ: كيف؟؟

أنتَ أَفْضلُ حَالاً مِنْ ملايين البَشرِ لا يَرَونَ إلا الظلامَ، يَتَمَنَّونَ يوماً أن يَسْتَمْتِعُوا بِوَقْتِ الغُرُوبِ وَمَنْظَرِ تَلاطُمِ أَمْوَاجِ البَحْرِ بالصُّخُورِ.

فأجابتْ بكلِ حزمٍ بِلُغةٍ تُغالِبُها حشرَجة: أنتَ السعادة وفيكَ السعادة وكلَ السعادة، لماذا نطلُب السعادة من الخارج، بِما لا نملِك، ستصير عبدا مُتكالباً على ما تفتقده كل حين، وما أكثر ما تفتقِدُه، "وَمَا مَلَأَ جَوْف ابْنِ آدَمَ إلّا التُراب"، السعادة الحقة هي السعادة بما نَملِك، أنت ترتَع داخل السعادة دون أن تلتفِت لنَفسِك، فتكون بهذا كذاك الذي يركَبُ حِمارَهُ ويبحَثُ عنه..

عِندَمَا تَسْتَيْقِظُ فَجْراً عَلَى صَوْتِ المُنَبِّهِ أَوْ آذَانِ الصُّبْحِ، تَذَكَّرْ أُولَئِكَ المُصابينَ بِالصَّمَمِ في العَالَمِ، وَهُـمْ كُثُر، لَا يَسْمَعُونَ صَوْتاً وَلاَ هَمْساً وَلا جَهْراً، فَكُنْ سَعيداً وَقُلْ "الحَمْدُ للهِ".. فَإِذا قُمْتَ مِنْ مَقامِكَ وَتَزَحْزَحْتَ تَتَوَضَأُ فَتَذَكَّرْ أُولَئِكَ الذِينَ يَقْبَعُونَ عَلى الكَرَاسِي مُقْعَدِينَ، إِذَا لَمْ يَجِدُوا مَنْ يُحَرِّكُهُم فَلا حَرَاكَ لَهُمْ، تَذَكَّرْ مَنْ يَركُنُونَ فِي زَوَايا البُيُوتِ جَـرَّاءَ شَلَلٍ نِصْفِي أو كُلِّي، فكُنْ سَعيداً وَقُل "الحَمْدُ للهِ".. تَوَضَّأْتَ وَخَرَجْتَ لِتَلْحَقَ برَكْبِ المُصَلِّينَ في المَسْجِدِ، وَأنتَ فِي طَريقِكَ تَذَكَّرْ أولَئِكَ الذينَ كَبَّــلَتْهُمْ نُفوسُهُمْ عَنِ الصَّلاةِ، وَمَنْ بَاتَ فِي لَيْلةٍ تتَقَارَعُ فِيهَا الكُؤوسُ وَتَتَغَنَّى فِيهَا النُّفُوسُ، وَقَدْ يَكُونُ الآنَ مُمَدّداً في إحْدَى الطُّرُقِ يَنتَظِرُ الغَوْتَ جَرَّاءَ حَادِثِ سَيْرٍ بِسَبَبِ سُكْرِهِ المُفرِط، فَكُنْ سَعيداً وَقُل "الحَمْدُ للهِ"..

حِينَ عَوْدَتِكَ مِنَ المَسجِدِ أَذْهَلَكَ الفَلَق، وَتَرَنَّمْتَ بِشُرُوقِ الشَّمْسِ، فَأَخَذْتَ تُـقَلِّبُ عَينَيكَ في جَمَالِ الأَشِّعَّةِ البلَّوْرِيَةِ تُرْسِلُ سهَامَهَا لِلأرْضِ، عِندَهَا كُنْ سَعِيداً وَقُلْ الحَمْدُ للهِ، فَأَنتَ أَفْضلُ حَالاً مِنْ ملايين البَشرِ لا يَرَونَ إلا الظلامَ، يَتَمَنَّونَ يوماً أن يَسْتَمْتِعُوا بِوَقْتِ الغُرُوبِ وَمَنْظَرِ تَلاطُمِ أَمْوَاجِ البَحْرِ بالصُّخُورِ، أَنْ يُمَيِّزُوا بَينَ الألوَانِ، أَحْمَرِهَا مِنْ أَخْضَرِهَا فَلا يَجِدُونَ.. فَـ "كُنْ سَعِيداً" وَقُلْ "الحَمْدُ لله"

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.