شعار قسم مدونات

من حاضِنات الخداج إلى حاضِنات المَوت!

blogs-أطفال الخدج

لا زِلتُ أذكر أول ورديّة فِي قسم الخداج وأول دهشة أصابتني حين جوَّلت نظري بين حاضنات الخُدَّج، كنتُ في إحدى حُجرات القسم والتِي ضمَّت ستَّ حاضِنات يسكُن في كل حاضنة ملاكٌ صغير تحُوم من حوله أسلاكٌ متناثرة على الجانبين؛ واحدٌ يقيس حرارته وثلاثةٌ منتهية إلى دوائر موزعة على صدورهم ومشبوكة بأجهزة المراقبة وآخرٌ مثل إشارة مرور حمراء يرتدونه كـ "حذاء" في أقدامهم، علمتُ حينها أنها تقيسُ نسبة تشبُّع دمائهم بالأكسجين، أنابيبٌ أخرى تتدفقُ فيها المحاليل إلى أوردتهم، وبعضهم كان يستعينُ بأنبوبٍ يأخذُ بالأكسجين ويجبره على الانسياب داخِل قصباتِهم الهوائية عنوةً.
 

مع مرور الوَقت أصبحتُ أرى في هذا القسم حديقةً وفي هذه الحاضنات بيوتًا بلاستيكية أخذت على عاتِقها حماية غرساتٍ ضعيفة تمامًا كما لو كانت لم تَبرح أرحامَ أمهاتِها. حدثَ ذات مرة أن تم تدريبُنا كممرضات في هذا القسم على إخلائه في حال حصَل حريق، أُخبرنا أن نحاول ارتداء "المراييل" ذات الجيوب الكثيرة لَعلَّنا نجعلُ من كل جيب ملاذًا آمنًا لخديج. إذ أنها تتسعُ لأجسادهم ذات الغرامات القِلال في مثل تلك الظروف، كما علّمونا بأن نبدأ بإخراج أكثر الحالات استقرارًا ممن لديهم فرصة في البقاء على قيد الحياة بدون حاضناتهم وأن نمضِي وإن حُبست أنفاسنا دون الذين تعتمدُ رئتيهم على أجهزة التنفُس في شهيقها وزفيرها.
 

أيّ حِقدٍ ذاك الذي يبذلُ في سبيلِ إبادة حَلب كُل الوسائل وأي وحشيةٍ يُعامَل بهَا مواطنونَ عُزَّل ذنبهُم فقط أنهُم وُلدوا على هذه البُقعة مِن الأرض فِي هذا الزَمن؟!

قُصفت حَلب الشهباء وأُمطر المستشفى الميداني فيهَا بوابلٍ من سِهام الموت، فكان لحاضنات الخُدَّج فيه النصيبُ الأكبر مِنها، أُدركُ تمامًا معنى أن تبكي الممرضاتُ وهي تهرعُ بهذه الغراس إلى برِّ الأمان وليسَ في حلب مكانٌ آمن! أعلمُ ماذا يعني أن يتلقّفنَ هؤلاء الملائك من حاضناتهم إلى أحضانهنَّ وصوتُ البكاء يعلو على صوتِ القصف، وكيف تفتدِي إحداهُن روحها مِن أجلِهم.. أن تتمنّى لو تستطيعُ إعادتَهم إلى أرحامِ أُمهاتِهم بعيدًا عن هذا العالم الموحِش.
 

حَلب التِي يُصافح الغَيمُ فيها أعمدة الدخان من جرّاء القَصف المتواصل، ورائحةُ الموتِ بينَ جنباتِها تزكُم الأنوف، تلفظُ ما تبقّى لديهَا من أنفاس بَعد أن جرّدتها الحربُ مِن حُلَّتها البهيّة فباتت كمريضٍ نهَش ذئبُ السرطان فِي جسده وأوغلت الأوجاعُ والآلام سكّينَها فِي خاصرتِه، تبقَى شامِخة وإن عَلا الدمار أحياءها، تظَلُّ عصيّةً على الانكسار وإن كانت رئة العَرب النَّازفة ومع ذلك لم يتداعى لها سائرُ الجسد بالسهر والحُمى!
 

حَلب بلا مشافٍ وأمطارُ القَصف لا تزالُ تنزل على رؤوس أهلهَا مصحوبةً ببرقِ الخوفِ ورعدِ الحُزن. أيّ حِقدٍ ذاك الذي يبذلُ في سبيلِ إبادة حَلب كُل الوسائل وأي وحشيةٍ يُعامَل بهَا مواطنونَ عُزَّل ذنبهُم فقط أنهُم وُلدوا على هذه البُقعة مِن الأرض فِي هذا الزَمن؟! الكَلماتُ التي تُكتب هنا أو هُناك ساذجةٌ إذا ما رُتِّبت أمام آلة الموت السوريّة التي لا تتوقّف، والعباراتُ التي تُصاغُ في بيتٍ آمِنٍ وبينَ أسوارٍ دافئة لا تساوي شيئًا! غَير أنها سبيلٌ لتحرير الألم المُكتنز في الصدور ولتبديد الدمعِ المُحاصَر في المآقي ورسالةٌ من مُستشفيات عمّان إلى أخواتِها في حَلب أننا على العَهد، نَقبضُ على يد مريض ونُربّتُ على كَتفِ آخر ونبذل آلامَنا رخيصةً لتُشفى آلامهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.