شعار قسم مدونات

المدينة الفاضلة.. تحترق!

BLOGS-يا الله

"هل فهمت الآن الحكمة من كون عُمر الإنسان لا يتجاوز الثمانين على الأغلب؟ لو عاش الإنسان مائتي عام لجن من فرط الحنين إلى أشياءَ لم يعد لها مكان". كانت كلمات الدكتور "أحمد خالد توفيق" بمثابة إطلاق صافرة إنهاءٍ لتفاصيل هذا اليوم العصيب، يومٌ عاصف مرَّت به تلك الفتاة العشرينية؛ فأرادت أن تختبئ -كعادتها- بين الكتابات والأوراق حيث عالمها الخاص ولو قليلًا، وقد كان.. غير أن هذه الكلمات أثارت في نفسها شجونًا، مما جعلها تستعيد تفاصيل يومها مرةً أخرى، أو بالأحرى تلك الجملة التي صدمها أحدهم بها، فما كان منها إلا أنها اتخذت من الصمت التام ردًّا عليه.
 

"فلتخرجي فورًا من تلك المدينة الفاضلة خاصتك"
تحكى الفتاة: كانت صدمتي الأولى في أول مواجهةٍ علنيَّةٍ لي في الواقع العملي، ترددت تلك الجملة إلى مسامعي مراتٍ ومرات ولكن في كل مرة تفاجئني بارتدائها ثوبًا جديدًا؛ فهي إن اختلفت في صيغتها وموضعها فالمضمون واحد. الموقف الذى استدعى هذه الجملة من حيث كونه فعلًا قُوبِلَ بردِّ فعلٍ مناسبٍ له، هو موقفٌ -من وجهة نظري المتواضعة- من الطبيعي أن يكون رد فعلى عليه هكذا، غير أن لآخرين رأيًا آخر مخالفًا لي تمام الاختلاف.
 

بماذا سأدعو الله؟ أدعوه بأن يجعل قلبي قاسيًا كفاية كي يتحمّل ما يحدث في هذا الواقع فيموت قلبي وضميري؟ أم أدعوه بأن يحفظ لي قلبي وضميري مما آل إليه الواقع الموبوء؟!

فالفعل -كما يعتقدون- لا غُبار عليه، بينما رد الفعل الذى أتبناه في مثل هذه المواقف هو أصلُ الغرابة وموطن كل علامات التعجب. استدرَكَتْ قائلةً: الأمرُ جدًّا بسيط، أتعامل بفطرتي التي خُلِقتُ بها، ومبادئي التي نشأتُ عليها، وهم يروْن أن تلك المبادئ والقيم الأخلاقية محلها المنزل -حيث نشأتها-، الكتب والمقالات على اختلاف مواضيعها، أو في ساحات المُثقفين لتجاذب أطراف الحديث وشَغل أوقات الفراغ، لكنها لا تؤتى ثمارها بتاتًا في حياتنا العمليّة وزمننا الحالي بمتطلباته المتنوعة، والتي تعتمد بشكلٍ أساسي على اللاأخلاقيات واللامبادئ.
 

أتعلمين؟ بات من المُربك أن يُفزعني أحدهم بتلك العبارة أو مثيلاتها كلما خَطوتُ خطوةً في طريقي، فأنا للتو قد أنهيت دراستي الجامعية بإحدى كليات العلوم المصرية، أي أنني بالنسبة إلى القاصي والداني فتاة صغيرة السن، لم تطأ قدمها بعد معترك الحياة الحقيقية، فكوْنى جامعيّة لا يعنى بالضرورة أنني أفهم الحياة جيدًا -من وجهة نظرهم- فالحياة العمليّة في هذا الواقع تجبُّ الحياة الجامعية وما قبلها.
 

بدأت تنهالُ عليّ التساؤلات من غير حولٍ مني ولا قوة، لِمَ كل هذه التعقيدات في أبسط الأمو؟ لِمَ يجب علينا أن نتعامل دومًا بشريعة الغاب؟ وأنه أبدًا لا شيء مستقيمٌ فطريّ؟ بل إن لكل كلمة -مهما بدت طيبة المنبت والهدف- معنى ومغزى خفيًّا شريرًا؟ وأنه أبدًا لا يمكن لشفاه القوم أن تنطق بما وقر في أعماق القلب من حقائق مهما كان؟
 

خُيَّلَ إليّ أن رأسي على وشك الانفجار من فرط ما دار فيه من صراعاتٍ عنيفة، اتخذت قراري في الحال أن أتوضأ وأصلي من الركعات ما تطيب به نفسي ويطمئن به قلبي، وبالفعل توضأت وبدأت أصلي ولكن عند السجود وبالتحديد عند بدء دعواتي الخاصة، بدا لي أن القسم الأصعب من الدعاء هو صوغ ما بداخلي.. لم أقوَ على الكلام؛ فأطلقتُ تنهيدةً وقلت "يـــــــــــارب" فإليه يُرجع الأمر كله.
 

انتهيت من صلاتي وعُدت أستكمل قراءتي العشوائية؛ لعلني أجد ضالتي، فهناك تساؤلٌ آخر أُضِيفَ حديثًا إلى القائمة، بماذا سأدعو الله كي أصيغ ما بداخلي؟ أعلم أن الله -سبحانه وتعالى- يعلم خائنةَ الأعين وما تُخفي الصدور، فبالتأكيد هو يعلم ما بي وبماذا أشعر، غير أنني في أشد الحاجة إلى الكلام. عُدت إلى حيرتي، بماذا سأدعو الله؟ أدعوه بأن يجعل قلبي قاسيًا كفاية كي يتحمّل ما يحدث في هذا الواقع فيموت قلبي وضميري وها هُنا أكون قد نجحت في واقعٍ فُرِضَ عليّ عُنوةً؟ أم أدعوه بأن يحفظ لي قلبي وضميري مما آل إليه الواقع الموبوء، وأن يجمعني بمن يحافظ في تعاملاته الحياتية على العهد الإنسانيّ؟

نحن موصولون بالفطرة كارتباط السمك بالماء، إن تنصّلنا من فطرتنا حدث ما لا يُحمد عُقباه، فلندع الفطرةَ تحكم ونستعن بالله.

آهٍ يا رأسي، أكره الصراعاتِ الدائرة فيه هذه المرة؛ فقد كادت أن تفتك بي.
وقعت عيني -بمحض الصدفة- على عبارةٍ أخرى لنفس الكاتب "أتمنى أن أبكي وأرتجف، ألتصق بواحدٍ من الكبار، لكن الحقيقة القاسية هي أنك الكبار! أنت من يجب أن يمنح القوة والأمن للآخرين". لا أعلم لِمَ شعرت لوهلةٍ أن هذا الكاتب يجلس في رأسي، ويشعر تمامًا بما في قلبي، فيعطيني من الكلمات ما يجعلني أشكُّ بأنه يرافقني، يرافقني حتمًا كظلِّي؛ فأنا حقًا بحاجة لأن يعانقني أحدهم ويطمئنني أن العالم ما زال بخير، وأن هذا الواقع المزعوم ما هو إلا كذبة لعينة تُطارد الكثيرين ولكنهم بالنهاية يتغلبون عليها، فأطمئن وأمضي في طريقي.
 

اتخذتُ قراري الثاني بأن أكتفى بهذا القدر من كتاباته وأنتقل إلى كاتبٍ آخر، يكفيني -بعد ما حدث- هذا القدر من كتاباته لهذا اليوم، وقلت: "يـــــــــــارب، ساعدني!". ثم وقع بين يدىّ كتاب لطالما أحببته، كان يحمل من "استرداد عمر من السيرة إلى المسيرة" عنوانًا له، وهو كتاب للدكتور أحمد خيرى العمرى، وقلت سأرتاح به، لعل النوم يأتيني بغتةً فيريح ذهني من ثِقَل تلك الحرب المُشتعلة برأسي.
 

فتحت أول ما فتحت عيني على "بناة النهضة الحقيقيون ليس لديهم ترف اللف والدوران، ليس لديهم هذا الخيار أصلًا، فالدرب لا يتحمّل أن تلف وتدور، صراط الحضارة مستقيم، وعليك أن تكون مستقيمًا معه ومستقيمًا عليه، ومستقيمًا مع من يتبعك من الجماهير". ارتسمت -لا إراديًا- على شفتيّ ابتسامة أعرفها جيدًا، وكأنها ابتسامة النصر المُبين، فها أنا ذا قد وجدت ضالتي وانتهى صراعي الداخليّ أخيرًا، حمدتُّ الله كثيرًا أن يسَّر لي سببًا ليريح ذهني من ذاك الاحتراب الداخليّ الذي سيطر عليّ لفترةٍ ليست بالقليلة، فحمدًا لله وشكرًا ملء السماوات والأرض أن "مدينتي الفاضلة.. لن تحترق".

نحن موصولون بالفطرة كارتباط السمك بالماء، إن تنصّلنا من فطرتنا حدث ما لا يُحمد عُقباه، فلندع الفطرةَ تحكم ونستعن بالله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.