شعار قسم مدونات

ملحمة ما بعد الولادة!

blogs-new born

بعد انتهاء الولادة.. وتجربة المخاض تلك كان عليَ أن أواجه مخاضا من نوع آخر.. مخاضا ربما لا ينتهي بولادة! وحدي على سرير في وسط الغرفة طفلي، الطبيبة، الممرضات.. الكل ذهب.. مرّت نصف ساعة قاسية على النفس وقدرات العقل البشري المحدود!

البرد يسري بجسدي وروحي.. وليس ثمّة إحساس يوصف إذ تعتليني حالة من الجمود أو الصدمة.. وكأن الأحاسيس عندما تبلغ ذروتها تتساوى بالعدم.. فكل شيء يبلغ منتهاه ثم يتلاشى ليولد من جديد. أتساءل.. هل حقا خرج من داخلي إنسان؟! هل انتهى كل شيء؟ هل ما مررت به معجزة أم حُلُم ! تسعة أشهر من الغموض تنتهي بحقيقة لا جدال فيها.. إنسان بقلب وعينين وروح وشفتين وصوت صرخة لا تغادر أذني..
 

أحضروا لي طفلي، وضعته على السرير بجانبي.. أضع إصبع يدي في قبضته الصغيرة فيشد عليها يخاطبني بلغة الجسد ألا تبتعدي عني.. كيف أبتعد يا ولدي وحاجتي إليك لا تقل عمقا عن حاجتك لي

لو قلت على سبيل القصة أن امرأة كبرت بطنها بالتدريج تناسبا مع حجم عظام وقلب ورأس ومعدة وأمعاء تطورت ونمت لتشكل جسدا خلال تسعة أشهر من الزمن ثم خرج من داخلها إنسان كامل الكيان.. بما فيه من روح وعقل ونبض.. فهل يصدق القصة أحد! نعم إننا نصدق بسهولة الأشياء التي اعتدنا عليها مع أنها قد تكون من أكثر الأمور تعقيدا!
 

تقطع تيار الأسئلة والأفكار ممرضة تأتي لتأخذني إلى غرفتي الخاصة حيث الواقع الذي كنت أعيشه قبل خوض هذه التجربة، بي شوق للخروج بقلب واحد الى العالم من جديد.. مشتاقة للعودة إلى ذاتي.. لكن يبدوا أنها بقيت هناك على حافة الذكرى.. فكل شيء هنا قد تغير أو في الحقيقة ربما أنا التي تغيرت! أحس أن أنا لست أنا، أشعر وكأنني ولدت من جديد، تجتاحني رغبة بالبكاء.. دون أن يسألني أحد لماذا؟ أبكي كالشتاء وابتسم كالربيع، كل الفصول مرت بي هذا اليوم..
 

عينيّ زوجي ونبض أبي وصوت أمي.. الكل يهنئني يحنو علي، يسعد بسلامتي وسلامة طفلي.. وأنا في عالم من الذهول! أمسك سماعة هاتفي لأتكلم مع أمي التي تفصلني عنها مسافات الغربة يمزّقني الحنين إلى قدميها.. حتى صوتها الدافئ تغيّر! أصبح أكثر دفئا.. أشدّ حنينا وأعمق أثرا في النفس..
 

أمي كلمة نطقتها كثيرا لكن كان على قلبي أن يقدّسها من تلك اللحظة، لحظة أن أصبحتُ أُمّا مثلك، معناك يا أمي تغيَّر.. الزواج ربما يغيِّر الانسان، الحب.. أو صحبة صديق، وربما قراءة كتاب، لكن أن يصبح الانسان أما أو أبا فذلك الانقلاب الربيعي للحياة..
 

مرّت دقائق وأحضروا لي طفلي وضعته على السرير بجانبي وصرت أتأمّلُه، مخلوق رائع القسمات يحار القلب في وصفه أضع إصبع يدي في قبضته الصغيرة فيشد عليها يخاطبني بلغة الجسد ألا تبتعدي عني.. كيف أبتعد يا ولدي وحاجتي إليك لا تقل عمقا عن حاجتك لي.. بعد ذلك اليوم الطويل كان عليَ أن أنام وأنام فحسب.. جسدي متعب لكن مخاض عقلي مستمر.. مطرقة تحرم ليلي من الغفوة وتؤرق سكونه! كيف أنام وأنا أتحسّس بطني فلا أجد نبضا؟ ثم ألتفت فأرى إنسان بجانبي، ما كان بالأمس إلا في داخلي!
 

إن كل يوم يمرُّ من عمر أمومتي لا يزيدني إلا حبا لأطفالي.. وأطفال العالم.. حبا للإنسانية التي تكلف الكثير، وحبا لله الخالق العظيم واهب الحياة..

كيف لهذا النبض أن يحيا بعيدا عني وكيف لي بدونه أن أبقى على قيد الحياة! كلما نظرت إليه أشعر أنني أنظر إلى ذاتي التي ولدت معه.. يا لهذه المعجزة التي اعتادت عليها البشرية! أحاول النسيان والهروب إلى وحدتي، لكن دون جدوى! نفسي تنازع نفسي، ما أسهل تعب الجسد! فبعض المسكنات كفيلة بتعديل الوضع لكن ماذا عن العقل؟ ماذا عن الروح؟ هل من عقاقير توقف زلزلة الفكرة أو بركان النبضة..؟

يراودني طيف الرسول -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول "زمّلوني زمّلوني"، وموسى عليه السلام "إذ ولى هاربا ولم يُعقِّب"، أتساءل إن كان في قلب كل أم شيئا من عبق نبوة حتى تحتمل كل هذا! اللهم سكينة لهذا القلب المتعب.. مرت أيام.. أسابيع.. أشهر.. صرت أكثر تقبلا، الأيام كفيلة بأن تجعل كل شيء مألوفا مهما كان غريبا، ولا بد من معنى الإنسان أن يتجلى في ذاته. يتّحد الاسم مع المسمى فيحلّ النسيان..
 

ننسى كي نُكمِل الحياة.. ننسى كي نمشي إلى أقدارنا بقلب كامل لا بنصف قلب.. وننسى كي نتابع المسير. إن كل يوم يمرُّ من عمر أمومتي لا يزيدني إلا حبا لأطفالي.. وأطفال العالم.. حبا للإنسانية التي تكلف الكثير، وحبا لله الخالق العظيم واهب الحياة..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.