شعار قسم مدونات

كيف قتلتُ نفسي..

blogs - gallows
الساعة العاشرة مساءً، وصلت بيتي بعد يوم حافل من التنقل بين عتبات المؤسسات وأبواب أرباب العمل، بحثاً عن أي عملٍ يوفر مجرد لقمة تُسكن بطون أطفالي الجائعة، يومٌ كسابقه من أيام الحفر في جدار الصخر بحثاً عن العمل.

قبل أن تبدأ كلاليب الهموم تتخطف كل ما أحاول نسجه من أحلام في يقظة أقصى ما أتمناه أن تصبح حقيقة كلما وضعتُ رأسي على وسادة النوم؛ رنّ هاتفي وإذ بصاحب البقالة المجاورة، يلعن حظه الذي جاوره بيّ، ويتوعدني بما لا يُحمد عقباه إذا لم أسدد ما استحقه من ديون خلال أيام، وهو بالمناسبة ليس المتوعد الأول.

أُوصدت كل الطرق أمامي، ولم يبقَ سوى مداراة فضيحة حتمية، أقسم أبو رامي أن العلاقة ستبقى سراً، ولن يتمكن أحد من اكتشاف هذا التعاون.

لم تكد تُفلت الدقيقة الأولى من قفص الساعة السحيق، حتى رنّ الهاتف مجدداً، وليته خُرس إلى الأبد قبل أن يرن رنته المشؤومة، ضغطتُ على الزر الأخضر في هاتفي، إيذاناً ببدء المحادثة، وبلغة عربية ركيكة قال المتصل "مساء الخير، معك أبو رامي، متصل حتى أساعدك وأخلصك من ديونك لو وافقت تتعاون معنا" كان أبو رامي ضابطاً في المخابرات "الإسرائيلية"، وظاهراً أنه استمع للمكالمة السابقة، والتعاون هنا يعني "الجاسوسية"، رفضتُ رفضاً قاطعاً أن أكون صعلوكاً تتحكم به المخابرات، لكنه استطاع أن يُقنعني أن التعاون الذي يَقصده ليس كما أظن بل هو حصر لبعض المعلومات العامة التي لا تؤذي قريب أو بعيد، وحتى يبرهن صدق نواياه كما يزعم طلب مني أن أحصي عدد الأعمدة في الشارع الذي أسكن كمهمة أولى، وترك لي فرصةً للتفكير.

فكرتُ وفكرتُ ثم فكرت فوجدت أن الأمر لا يحتاج مني كل هذا التعقيد، وأنني لن أخذل فلسطين بعدِ أعمدة شارعي المبجل.

في اليوم التالي أخبرتُ أبو رامي بموافقتي، وأعطيته عدد الأعمدة التي طلب، فأرشدني إلى مكان أسماه مجازاً "نقطة ميتة" كانت هذه النقطة عبارة عن حاوية للقمامة في منطقة غير ذي زرع، بجوارها كانت مكافأتي الأولى 100 دولار داخل علبة سجائر فارغة، كان المبلغ بالنسبة لي مجدياً.
تتابعت المهمات، كم عدد أبواب المسجد، كم بائع دجاج في السوق المجاور، واستمر العمل على نفس الشاكلة، حتى جاء اليوم الذي سلب فتات ما تبقى لي من كرامة، طلب مني أن أخبره بالتوقيت الذي يخرج به أبو أحمد -القائد الوطني المعروف بصلاحه- من منزله، إيذاناً باغتياله، رفضت رفضاً مغلظاً طلبه، فموافقتي للعمل كانت مشروطة بعدم الإضرار بالآخرين، وصرخت به قبل أن أغلق سماعة الهاتف، وأمرته ألا يعاود الاتصال بي مجدداً فقد تقطعت كل أحبال التواصل بيننا.

ما إن أغلقت الهاتف حتى رن مجدداً، جاء صوت أبو رامي منفعلاً "مغفل أنت إذا كنت تظن أني أدفع لك 100دولار من أجل عد الأعمدة أو البائعين، ستراقب أبو أحمد وتخبرني بتوقيت خروجه بسيارته وبدون مقابل.. وأغلق الهاتف!

تفاجأت من حجم الثقة الذي يمتلكها الرجل، لكن سرعان ما تبددت الدهشة وذهبت أدراج الرياح، بعد أن أرسل لي رسالة تتضمن تسجيلاً مفبركاً يؤكد تورطي في اغتيال عدد من قادة المقاومة، تثاقل حينها نبضي، وبلغت روحي التراقي، وودتُ لو مت قبل هذا وكنت نسياً منسيا، صارت الفضيحة قاب قوسين أو أدنى، ليتها فضيحة وحسب، بل فضيحة يتعقبها الموت، توقفت عقارب الزمن، وليت قلبي توقف معها.

أُوصدت كل الطرق أمامي، ولم يبقَ سوى مداراة فضيحة حتمية، أقسم أبو رامي أن العلاقة ستبقى سراً، ولن يتمكن أحد من اكتشاف هذا التعاون، وأرجع ذلك لقوة جهاز المخابرات "الإسرائيلي"، فوافقتُ مجدداً، وعلى ما يبدو فإن محفظة المخابرات أصيبت بالعُقم، فلم تعد تنجب ورقة من فئة 100 دولار، بل باتت تُنجب بعُسرة عشرين أو خمسين دولار كل عدة أشهر، ومضت السنوات حتى داهمت أجهزة الأمن منزلي واعتقلتني دونما تهمة ظاهرة.

استيقظ قبل أن تُهدر الأيام من يديك وأنتَ خائن، أحيي ضميرك وأعلن توبتك، قبل أن تُعلق على عود المشنقة.

لم أستطع أن أراوغ المحققين كثيراً، فاعترفت أنني من كان وراء اغتيال القائد المعروف أبو أحمد ومرافقيه وطفلة تخطو نحو أجلها في الطريق الذي تغيرت ملامحه بعد أن قُصف بأطنان المتفجرات، انطلق لساني دون أن أعرف كيف أخرسه، باح دون إرادةٍ مني، أخبرهم عن الأشلاء عن الأطفال عن النساء عن سبعة وعشرين بريئاً تحولوا إلى قطعٍ من اللحم المفتت عندما قُصف منزلهم بعد أن أخبرتُ عن المقاوم ذاك.

مضت الأشهر وانسقتُ إلى ساعة الحكم، أصوات التكبير تخرج من الحناجر كأنها أمشاط حديدية تهوي فوق جسدي فتمشط لحمي وتتركني هيكلاً من العظم النجس، بعد أن علا صوت القاضي بحكم الإعدام شنقاً حتى الموت لخيانة الوطن، وقتل الأبرياء.

هذا حال العشرات ممن غررت بهم المخابرات "الإسرائيلية" وطمست على قلوبهم، وساقتهم طوعاً لفضيحة على رؤوس الأشهاد وأعناق معلقة على أعواد المشانق، فإن كنت واحدا ممن غُرر بهم، أو استُغلت حاجتك المادية أو النفسية، فالفرصة مازالت أمامك.

فكر بعائلتك التي كنتَ قدوتهم في كل تفاصيل الحياة، ما ذنبهم إذا نُبذوا في مجتمعهم، كيف لأمك أن تنطق باسمك، وأنّى لها أن ترفع رأسها بعد أن دفنت كرامتهم جميعاً في التراب، استيقظ قبل أن تُهدر الأيام من يديك وأنتَ خائن، أحيي ضميرك وأعلن توبتك، قبل أن تُعلق على عود المشنقة أو يصرخ القاضي رفعت الجلسة بعد أن ينطق بالحكم المؤبد مع الأعمال الشاقة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.