شعار قسم مدونات

طالبة ميكانيكا بشرية

blogs - hospital
نحن لا نَدرُس طبا بشريا.. نحن نُدَرّس الميكانيكا البشرية بكتيبات إرشادات لكيفية إصلاح "الآلات" بشيء من الرفق وأحيانا شيء من الشفقة.. نحن نُدَرّس العبث في أنبل أشكاله.

لا تقترب من المريض جداً، لا تبتعد جدا، ولا تندمج عاطفياً، إياك أبدا أن تفعل، كن كالتمثال المهيب متى ما دخلت أو خرجت، وقفت أو جلست، وإذا تكلمتَ فاصمت، أو حكمتَ فلا اعتراض ولا اختيار!

لا يجب أن تنسى أن المريض إنسان، فخفف عنه وسانده لكن لا تقترب كثيراً، فقط اقرأ عليه خطابا تراجيديا مثيرا للشفقة! ربت على كتفه إذا استدعى الموقف، ولا تظهر مشاعرك كثيرا كي لا تصبح بدورك ضحية وتموت كمداً إن فشل العلاج، ويعتصر قلبَك الندمُ إذا توفي المريض، فتضيع في الكآبة أنت، فقط حافظ على تلك المسافة وستكون بآمان.

التقرب من المريض لا يمكن أبدا أن يؤذيك وإن ساءت الأمور، بل هو ما سينقذك ويشفيك، فابتساماتهم في وجه المرض والألم تهذبني وتُرَضّيني، ودعاوتهم الصادقة تنعشني وتجدد نيتي.

ابتسم دائماً، لا يهم كيف، واسأل عن أحوالهم، لا يهم أجابوك أم امتنعوا، وامضِ فقد قمت بواجبك، يا إلهي ماذا صنعوا؟ دفعات من الحمقى؟ الروبوتات؟ أم الميكانيكيين؟ وفي تلك الهوة السحيقة التي يسمونها مسافة الأمان والمهنية بين الأطباء ومرضاهم ضاع الطب.. أجل ضاع منه النبل!

ذاك المريض الذي تضع بينك وبينه تلك المسافة لتحمي نفسك من دمار عاطفي قد يقضي على مسيرتك الطويلة العسيرة، يشعر بذلك ويؤذيه الشعور ربما أكثر من المرض نفسه أحيانا، والأمان في تلك المسافة ليس إلا وهما يبيعوننا إياه.

التقرب من المريض لا يمكن أبدا أن يؤذيك وإن ساءت الأمور، بل هو ما سينقذك ويشفيك، فابتساماتهم في وجه المرض والألم تهذبني وتُرَضّيني، ودعاوتهم الصادقة تنعشني وتجدد نيتي، وذلك وحده ما ينسيني رداءة التكوين وبؤس الظروف وحيرتي وكآبتي المزمنة.

هل جربت أن تهب من وقتك وإن لم تحز منه الكثير فقط لتستمع لشكوى مريضك وهمومه؟ فلربما ثقلها أفقده عزمه وقدرته على التشافي، أن تجلس عند سريره أو تقف قريباً منه وتشعره صدقا أنك تحس بآلامه وشقائه، ربما ترى شقاءه مرات عديدة حتى أمسى برودك عادة سيئة جدا تنهار كتل جليد على رؤوس مرضاك، تحطم بقايا آمالهم المترددة، لكن هل تعود هو على مرضه؟ هل يمرض عشرات المرات كل يوم؟ وهل يدرك أنه مجرد حالة من عشرات وربما مئات أخرى في جدول عملك اليومي؟

هذا المريض ليس لديه إلا روح واحدة وجسد واحد، وقد خانته صحته وخارت قواه وجاءك مستغيثا يرى فيك سببه في الخلاص فهل تدرك ذلك؟ فإن فشل العلاج ونجوتَ من نوبات الحزن والشعور بالذنب، فهل فكرت في تلك الروح الجريحة؟ أجل فالمرض يخدش الروح وقد يكسرها ويشوهها، كيف يا تراها ارتقت؟ هل غادرت بسلام متقبلة القضاء كيفما كان الحال؟

أشيَّعتكَ بنظرات الرضا والعرفان؟ وشكرتك على كونك إنسانا بَذلْتَ أفضل ما كان بوسعك تقديمه من حب وعون ومساندة، دواء كان أم اهتماما صادقا يبعث الطمأنينة والسكينة ويخفف من حدة الألم والوجع؟ أم يا تراها غادرت خائفة حائرة مرتعبة زادها جفاء المعاملة مرضا وتيها؟ هل كلفت نفسك عناء الشرح للمريض؟ هل أوفيته حقه في معرفة مرضه وعلاجه وفرصه وآماله وزدته أملا علّ موقفك الإيجابي يحفز جسمه المتداعي على المقاومة والصمود؟ أم أنك سخرت من خوفه أو أمله ولو سرا بينك وبين نفسك؟ ألا تخجل من هول الموقف، أم أنك تجرعت الوهم حتى ظننت نفسك إلهاً لا يمرض؟

طوفان من الأسئلة يجتاحني لا أدري هل لها من جواب عندك أو عندي، فقد تغربنا جداً عن رسالة النبل في هذه المهنة رغم وجود تلك الاستثناءات التي تبعث قليلاً من الأمل فينا، والتي أيقظها ضمير الرحمة والرأفة وليس منهج الميكانيكا المُدَرس، أو ما الآمال في هذا البلد والدعوة هنا للجميع، فما عاد في وطني إلا التجهم واليأس وكل شيء أمسى غريبا جداً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.