شعار قسم مدونات

الورقة رقم 128 وأزمة النخبة اللبنانية!

blogs-Lebanese
أخيراً تمكن مجلس النواب اللبناني من انتخاب رئيس للجمهورية بعد فراغ دستوري دام لقرابة الثلاثين شهراً، تابعت كغيري من المتابعين سير عملية التصويت التي جرت داخل المجلس، إذ يندر أن تحظى بمتابعة عملية انتخاب معروفة النتيجة سلفاً بذلك الاهتمام والتوتر والترقب.
 

النواب من جانبهم لم يبخلوا علينا نحن المتابعين، جزاهم الله خيراً، فقد مارسوا حقهم الدستوري كاملاً ونابوا عن الشعب خير نيابة، وحرصوا على أن تكون عملية الاقتراع مستوفية لشروط النزاهة والفعل الانتخابي الحر، لذلك حرصوا على تكرارها كلما ضربها شك عدم النزاهة.
 

لا شك في أن الحرب الأهلية وعملية البناء الأولى لمؤسسات الدولة أفضت إلى بناء طائفي معقد ليحافظ على توازن البلاد، لكن على عكس ذلك لم يشهد لبنان استقراراً طوال العقود الماضية.

نبارك لشعب لبنان إنجاز تلك الخطوة الهامة التي أنهت الفراغ الرئاسي، ونتمنى لهم التوفيق في الخطوة المقبلة.
 

ربما يكون الدستور اللبناني الدستور الوحيد الذي يُشَرعِن مسألة الفراغ الرئاسي، وليست تلك الميزة وحدها هي الميزة الغريبة في ذلك الدستور الذي يعرف نظام الحكم في لبنان على أنه نظام جمهوري ديموقراطي طائفي، وهو تعريف نادر الوجود، ورغم أن الدستور لا ينص صراحة على ديانة شاغل منصب الرئاسة، إلا أن العادة جرت على أن يكون شاغله من اتباع الطائفة المسيحية المارونية التي تمثل ثلاثة وعشرين في المئة من تركيبة الشعب اللبناني.
 

لا أرغب في الخوض والحديث عن التركيبة اللبنانية المعقدة التي تكوّن المجتمع، وعن المحاصصة السياسية المتفق عليها والتي تقتضي توزيع المناصب الدستورية والتنفيذية على الطوائف الدينية، لكن لدي رغبة في التساؤل لماذا لم تنجح النخبة اللبنانية منذ استقلال البلاد في العام 1943م وحتى يومنا هذا في الوصول إلى صيغة يلتف عليها الجميع دون الحاجة لأن يعرف المواطن اللبناني نفسه بأنه لبناني من الطائفة كذا ومن ضاحية كذا.
 

لا شك في أن الحرب الأهلية وعملية البناء الأولى لمؤسسات الدولة أفضت إلى بناء طائفي معقد ليحافظ على توازن البلاد، لكن على عكس ذلك لم يشهد لبنان استقراراً طوال العقود الماضية، ولم يتمكن من النأي بنفسه والانفكاك من المؤثر الخارجي الذي يتلاعب بالبعد الطائفي والديني، حسب المتغيرات السياسية الإقليمية.
 

كلمة طائفة أينما ذُكرت لم يأتِ بعدها نبأ خير، في حالات نادرة فقط، وردت في الذكر الحكيم حاضّة على إتباع النهج القويم للفوز بدار الجزاء، لكن عموماً كلمة طائفة دائماً تقسيمية، طائفة من المؤمنين، طائفة من كذا.. تأتي الكلمة لتشير إلى جزء من كل، هنا العقبة الكؤود التي لم يتمكن اللبنانيون من تجاوزها، أو بالأحرى لم تتمكن النخبة السياسية من حلحلتها، لترتكن للحل السهل الذي يقسم الكل لحساب الجزء.
 

ألغى رئيس البرلمان نبيه بري عملية التصويت التي جرت لانتخاب رئيس الجمهورية مرتين متتاليتين، لم يكن الالغاء نتيجة لعدم اكتمال النصاب أو عدم حصول مرشح على عدد الأصوات الكافي للفوز، إنما جاء لزيادة عدد الأصوات عن عدد النواب الذين يحق لهم الانتخاب، "128" صوتاً هي نتيجة عملية فرز أصوات النواب الذين يحق لهم التصويت والبالغ عددهم "127" نائباً، شكّل الصوت الزائد عقبة في عملية الفرز وإعلان اسم المرشح الفائز سلفاً، قد يكون الأمر يحمل في طياته جانباً من الطرفة، لكنه في حقيقة الأمر يعبر بصورة واضحة عن حجم الأزمة اللبنانية.
 

طلب رئيس البرلمان بعد أن وجد عدد الأصوات زائداً من النواب أن يراجعوا أوراقهم قبل أن يلقوها في الصندوق، وجرت عملية التصويت مرة أخرى لتأتي الأصوات زائدة للمرة الثانية، ويتدخل رئيس المجلس لحل تلك المعضلة، بوضع الصندوق على مرأى من الجميع بعكس ما كان يتم في العملية الأولى بتمرير الصندوق من قبل موظف المجلس على النواب، واختيار نائبين للوقوف ومراقبة زملائهم حتى لا يصوتوا بأكثر من صوت.
 

الصوت الزائد الذي أكدت عملية التصويت أنه متعمد، يعبر عن حالة الفرقاء اللبنانيين، والشعور بعدم الثقة في الآخر، عدم الثقة الناتج من غياب القاسم المشترك، والشك في الآخر الذي سيعمل وفق حسابات الضرورة التي تفتضيها توجهات طائفته وتقاطعاتها الخارجية.
 

فشل النواب واستهتارهم بمشاعر الجماهير التي تراقبهم، مرة بإلقاء صوت زائد ومرة بترشيح عارضة أزياء، ما هو إلا فشل لنخبة سياسية ومثقفين لم ينجحوا في صياغة معالم واضحة لقومية تتجاوز الانتماء الطائفي، لتدافع عنها الأمة بمختلف مكوناتها.
 

ستشهد الساحة اللبنانية في مقبل الأيام حراكاً سياسياً، لكنه لا يعني بأي حال المضي قدماً في عملية بناء الدولة.
 

لبنان التي يعيش داخلها أربعة ملايين لبناني، ويعيش خارجها أكثر من أربعة عشر مليون نسمة، ما هم إلا شتات عدم الإحساس بالقومية التي تعبر عنهم.

المعركة التي تتهرب منها النخبة اللبنانية قائمة حتى الآن، متى تتم المعالجات الدستورية التي تتخطى الطائفية، ومتى يحيط المثقف اللبناني برؤية واضحة تساهم في تجسير الهوة، وصياغة معالم لقومية لبنانية تمثل المخرج الوحيد لأزمات البلد المتتالية والمتجلية في عدم الثقة في الآخر وعدم الإحساس بالانتماء الوطني، لبنان التي يعيش داخلها أربعة ملايين لبناني، ويعيش خارجها أكثر من أربعة عشر مليون نسمة، ما هم إلا شتات عدم الإحساس بالقومية التي تعبر عنهم.
 

متى تضع النخبة اللبنانية نصب أعينها همها الوطني، مثلما وضع رئيس البرلمان نبيه بري الصندوق أمام أعين الجميع ليحسم فوضى الصوت الزائد؟! متى يضعوا همهم القومي أمام أعينهم؟! متى ينفكون من التعصب لطوائفهم التي تتلاعب بها رياح المتغيرات السياسية الإقليمية والدولية؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.