شعار قسم مدونات

متى يصبح الخريف ربيعاً

blogs - syria

رياح خريفة تهز نافذتي بعنف، تحاول الدخول عنوة كما حاول ويحاول غيرها الدخول عنوة بسلاحه. رياح خريفية في أواخر فصلها إذ أن الشتاء بدأ يفرض نفسه.. أوراق مصفرة ميتة تُريني الهواء وتحركاته. هذا الخريف مميز برياحه ورائحته بأوانه حتى إني أخشى أن يكون خريفي أنا، أو أن يكون خريف بلادي..

هذا أول خريف ألحَظُ قدومه منذ سنوات خلت، منذ أن فارقت طفولتي على أعتاب نفس النافذة المطلة على باحة منزلي، يحيط منظرها وادٍ تلونت أشجاره بألوان الخريف في يوم الجمعة حيث لا مدارس.

طين بلادي لم يعد مُسَببه المطر بل بات طينا كأنه الحِناء لما سُقي به من دماء.

كنت أراقب الخريف وطيوره المهاجرة، أراقب زرازيره السوداء المرصوفة على حبال أعمدة الكهرباء، أراقب طائر الغَطرَس فاردا جناحاه، وطائر الغطاس الأحمر الرقبة، أرقب المناخ وتغييراته، السيارات العابرة، الغيمات الماطرة، الأشجار وأوراقها المتناثرة ليس حبا له (الخريف) بل حبا بالخروج للباحة والاستمتاع لعبا تحت تينتها تارة، وعبثا بطينتها تارة أخرى.

أتامل حشراتها، أتسلق شجراتها، أتوق لشمس حجبتها الغيوم، حينها كانت أوامر أمي خشية أن تصيبني أمراض برد إن خرجت، هي من تحول بيني وبين ما ترقبه عيناي توقا.

حين تقدمت أيامي، وسيطرت عليها الواجبات والمهام، وهزتها الحوادث الجسام، وأمست أحلامي بعض أوهام، حينها تصبح الشهور والفصول مجرد أرقام تمر بي ولا ألحظها، إنما ألحظ بردها أو حرها أو غيمها أو رياحها..

يومي هذا ليس يوم جُمعة، وهذه المرة ليست أوامر أمي وخشيتها أمراض البرد هي من حالت بيني وبين باحة منزلي، بل جراح أثخنت جسدي وجعلته طريح الفراش متأملا عبر النافذة، أسترجع ذكريات غضة وأخرى مؤلمة، لكني ها أنا ذا على نفس النافذة الحظ الخريف ثانية، الخريف الذي لم يعد للطيور المهاجرة أثر في ملاحظاتي كما كانت، إذ حلت مكانها غربان "سيخوي- فينسر" الروسية.

غربان تقذف قنابلها شديدة التدمير وأسراب من غربان "الميغ" تنقض رأسيا مطلقة قنابل على بيوت بسيطة تشبه بيتي، وقنابل مظلية تسقط ببطء ولكنها تنفجر بسرعة، كأنك ترى الموت قادم ليحصد أرواحا غافلة مرعوبة.. وفوقها طائرات بلا طيار محملة بأسلحة قتل ودمار، تتبع لدول شعارها "حقوق الأنسان"، طائرات ترى بعين كامرتها وتبحث عن أهداف لها تخص من أرسلها، تبحث عن أشخاص لهم تأثير ربما يساعد في نهضة أمتي يوما ما، فلذا كان لزاما أن يكون هدفا لقذائف موجهة تخصه دون غيره لما تميز به عن غيره.

لا ترى المدارس وما حل بها ولا المنازل وما نزل بها ولا المستشفيات ومن قُتل بها ولا ولا ولا … لم يعد سقوط الأوراق ملحَظا مهما بل استُبدل المشهد بسقوط القنابل التي تُسقِطُ مَن تحتها مِن شباب وأطفال من الصحب والجيران أو من الاقارب والأباعد.

لم تعد السيارات كما كانت بل أمست محملة بمقاتلين متنقلين من جبهة لجبهة ومن ثغر لثغر ومن فك حصار لسد هجوم، وسيارات أخرى محملة بطريقة عشوائية بأثاث منزل قديم يهرب أهلها من تحت قصف عنيف لمكان قصفه أقل عنفا، وسيارات أخرى محملة بأجساد شهداء أبرياء طالتهم البراميل المتفجرة بأوامر معتوه مجرم يصف نفسه برئيس لبلادي، أو محملة بجرحى دمائهم لا تزال تسيل..

طين بلادي لم يعد مُسَببه المطر بل بات طينا كأنه الحِناء لما سُقي به من دماء، هذا الخريف مختلف أيما اختلاف، ونفسي تتوق أيضاً للخروج كما كانت في طفولتها، ليس للعب هذه المرة بل لمنع الفاجرين الذين يقتربون رويدا رويدا من داري، رغبة مني رغم ضعفي بحماية تينتها وطينتها، ونافذتي وطلتها، وأمتي وكرامتها وأطفال بلادي وحريتها، وحماية أمم أخرى نائمة عما يحصل لبلادي.

أختي تجلس بجواري تراقب ما أراقب أنا وتسأل أحيانا ما يغذي فضولها البريء، فلا مدارس تقصدها بعد أن أصبحت مدارسنا بأطفالها في ساعات دوامها هدفا صريحا لأسراب غربان "سوخوي" الروسية، فالمدارس مكان يموت فيه الأطفال جملة، لذا كان البيت لهم بلا تعليم أفضل وأسلم، فالموت هنا في البيوت موزع لا مجمع.

في خريف أمتنا فقدنا الكثير منا، لنعود في ربيع دائم مليء بالحياة والكرامة والحرية ولا وجود لنظام مجرم فيه.

هذه الطفلة ترى خريفي أنا ولم يتسن لها أن ترى خريفا كخريف طفولتي، لكني آمل كلما نظرت إلى جراحي وكلما نظرت إلى سيارت محملة بالشهداء، وكلما نظرت إلى عمود دخان يتصاعد بعد برميل متفجر نزل، آمل كلما نظرت إلى مأساة لن يصفها قلم، أن يكون خريف صباها وشبابها كالخريف في طفولتي، أن يكون خريف صباها وشبابها ربيعاً، أن تنبت زهرات جميلات كجمال أرواح عطرة دفنت تحتها، أن تنبت أزهارا حمراء جمالا كلون الدم الذي سُقيت به.

وحسن ظني بالله أنه لن يخذل دمائا استجابت، وشعبا صبر وأطفالا كبروا وعانوا قبل أوانهم..تسألني الصغيرة: ألا تنفذ قنابل النظام؟ ألا ينفذ وقود تلك الطائرات، ألا يتعبون فيستريحون، هل سيقتلون منا الكثير بعد؟!

فأشرت إلى شجرة فقدت معظم أوراقها: أترين هذه الشجرة ضحت بأوراقها كي تكون قادرة على مواجهة الثلج في الشتاء، لكنها ستعود في الربيع لتنبت أوراق ريانة أرق وأجمل وأنضر وأكثر.

ونحن في خريف أمتنا فقدنا الكثير منا، لنعود في ربيع دائم مليء بالحياة والكرامة والحرية ولا وجود لنظام مجرم فيه، فابتسمت وأومئت برأسها كمن فهِمت، وأظنها قد فهمت فأطفالنا كبروا قبل أوانهم واتسع إدراكهم بوسع خوفهم ومعاناتهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.