شعار قسم مدونات

حكايةُ قبرِ أُمّْي

blogs - grave

في باكرةِ يومٍ نوفمبري متوسطِ البرودة، ذهبتُ لأزورَ أُمّْي وأُناجْيها ببعضِ حديثٍ وأدعيةٍ وبوحٍ بقديمِ الذكريات. المقبرةُ متراميةٌ واسعة، والقبورُ منتظمةٌ في أعمدةٍ متوازية. كانت أمي تقولُ في هُزُعِ الليالي الأخيرة "اقبروني بين أهلي لأنّْي آنَسُ بهم.. فَلَكَمْ أبصرتُ مقبرةَ قريتنا بعدَ غزارةِ الأمطارِ تنقلبُ حديقةً غنّاءَ تَنْبُتُ في ثناياها أشجارُ الطلحِ وزهورُ عبّادِ الشمسِ ونبتةُ "العِرْابِ" الطويلة.. ثم فجأةً تَخْتَلِسُ حُمْلانُ الضأنِ وجِدْيانُ الماعزِ فرصةً للدخولِ وأكلِ ما تيَّسَرَ لها من كلأِ الأرضِ فوقَ المقابر".
 

"لعلّْي تحتَ الأرضِ أسمعُ "ثُّواجَ" الجِدْيان فوقَها! فإنّْي ولِدتُ راعيةَ غنمٍ وسأموتُ راعيةَ غنم.. ولو كان البعثُ والنشورُ بالمِهْنَةِ والحِرْفَة.. لضَمِنْتُ مرافقةَ الأنبياءِ والرُسلِ حُذُوَ القُذّْةِ بالقُذّْة" أوصتني أيضاً فقالت: لا تدفنوني بينَ أرتالِ الغُرباءِ في مدنِ الغُرباء.. لا تجعلوا رُفْاتي يئنُّ قيضاً حارقاً أو شتاءً زمهريرا، وقد تعلمونَ أن أرضَ ريفي ألطفُ نسيماً وأنقى بلادِ الأرض".
 

إنَّ ظالمَ الدُنيا لو عَلِمَ ما عَلِمْناهُ في حياةِ البرزخِ ما كلّْفَ نَفْسَهُ هذا الفِعْلَ الدنيء ولا استنفدَ قُواهُ فيما سيكونُ عليهِ وبالاً وحسرة. لكنَّكَ تؤمنُ أنَّ للصابرينَ جزاءٌ لا تدركهُ الأفهامُ والعقولُ.

لكنَّ القدرَ سبقَ وصيَّتها، فلم نفعل!
كثيراً ما أرى نْفْسْيَ وليداً أصرخُ وهيَ تُلاطِفُني بِكُلِّ وسيلةٍ تملِكُها كي أهْدَأَ وأُكْمِلَ نومي.. تَذّْكْرْتُ ذهابها وجَدّْتي لأبي إلى برِ الريفِ لإحضارِ طينِ "الجفاف" ثم تَنْقِيَتِهِ لتضَعَهُ أُمّْي على عورتي، خشيةَ أذى الحَفَّاضات! تَذّْكْرْتُ كلَّ لحظةٍ احترقتْ بها مَشْاعِرُها خوفاً على حياتي وطلباً لأماني وسلامتي. تَذّْكْرْتُ أنَّنَي مهما جمعتُ من الأُخوّْاتِ والصداقاتِ الخالصةِ الصادقةِ الحانيةِ المُؤثِرةِ بِرَغْمِ الخَصْاصْة، فلن يكونوا مكانَ أُمّْي ولن يحملوا قَلْبَها.
 

لمّا بَدْأتُ أدعو وأُناجي، سَمِعْتُها تُناجيني هيَ فقالت: ما الحالُ من بعدي؟! فقلتُ نحنُ بخيرٍ يا أُمّْي، نأكلُ ونشربُ ونُنْجِبُ ونَضْحَكُ ونمرحُ ونسافرُ ونَغْضَبُ ونرضى ونُذْنِبُ ونَتْوبُ ثم نَعْودُ الذنبَ تارةً أُخرى ونفعلُ كلَّ شيء. ما توقفتْ حياتُنا قط! تزوّْجَ أبي وتزوّْجَ أخي ورزقنيَ اللهُ وبعضَ أخوتي أطفالاً ما حظوا بشرفِ نظرةٍ منك ولا استمتعنا بمُلاعَبَتِكِ لهم بالأشعارِ والأغانيِ -على لسانِهِم- كما فعلتِ مع الأحفادِ السابقين.. تلكَ المهارةُ التي لا يُتْقِنُها أحدٌ سواك.
 

رحلَ ملكٌ وأتى ملك، وقيل لنا أنَّ ثمَّةَ رؤيةً سنرى نتائجَها بعدَ حين، وخُضْنْا حرباً في اليمن سَبْبُها الوجهُ الأسودُ المحروقُ الذي كانَ يتلقى عِلاجَهُ بمستشفىً مجاورٍ لمشفاكِ الذي كنتِ تَتَلقّْينَ علاجَكِ فيه، وهَوَتْ أسعارُ النفط، وما زالَ بشّْارٌ في دمشقَ يَعِدْونَهُ ويُمَنّْونهُ ويَرْبِتونَ على كَتِفِهِ "الكُفّْار"!، والعراقُ ما زالت تَئِنُّ عربدةَ الصائلِ الإيراني الأمريكي، ومرسي رئيسُ مِصْرَ ما زالَ في سجنهِ، ونجى أردوغانُ من محاولةِ انقلاب، ومضى محمدُ السادسُ في طريقٍ ذكيةٍ للإصلاحِ لا تَمُسُّ صلاحيَّاتهِ وهيبته. وداعشُ تنكمشُ في جهةٍ وتتمددُ في جهةٍ كالعادة، ولا أدري بالضبطِ إن كانَ أوباما قد قالَ أنَّ حربَ داعشٍ ستستغرقُ ثلاثينَ سنةً، قبلَ وفاتكِ أم بعدها. وجاءَ -في البيتِ الأبيضِ- رجلٌ أبيضٌ جرماني.. فاقعٌ لَوْنُهُ يَغْمُّ الناظرينَ اسمهُ "ترمب"، لا ندري أخيرٌ أُريدَ بنا بوصوله، أم ثمّْةَ سُنْنْ؟!، فللّْهِ تعالى في أقداره حِكَمٌ لا نحيطُ بها على كلِ حال.
 

نَسيتُ فلسطين! ففي كل يومٍ تَزُفُّ شُهداءَ جُدُدٌ ليكونوا في عالمِكُم يا حبيبتي، وما زال أبو مازن في رامَ الله غيرَ أنّْي لاحظتُ حماسَتَهُ الشديدةَ هذهِ الأيامِ لزيارةِ موسكو.. لا أعلمُ تفاصيلَ السببِ لأنّْي لستُ مُهتماً بالسبب!
 

فقالت، كفى كفى.. هذهِ دُنياكُم يا ولدي فلا جديد. إنَّ أشدَّ ما يؤلمُ المرءَ أن يجدَ الظُلمَ قد استشرى في دُنياكُم وما أنا مِنْكُم ببعيدةٍ على أيِ حالٍ فقد رأيتُهُ وعَلِمْتُهُ في دِيْارِ العربِ والمسلمين. إنَّ الظُلمَ هوَ قضاءُ الدُنيا الذي سَخِرَ السحرةُ التائبونَ المؤمنونَ مِنْهُ حينَ قالوا "فَاقْضِ ما أنتَ قاضٍ إنَّما تَقْضْي هذهِ الحياةَ الدُنيا"، وإنَّ ظالمَ الدُنيا لو عَلِمَ ما عَلِمْناهُ في حياةِ البرزخِ ما كلّْفَ نَفْسَهُ هذا الفِعْلَ الدنيء ولا استنفدَ قُواهُ فيما سيكونُ عليهِ وبالاً وحسرة. لكنَّكَ تؤمنُ أنَّ للصابرينَ جزاءٌ لا تدركهُ الأفهامُ والعقولُ يا بُنيَّ.. فَطِبْ خاطراً.

أَحْسِنْ إلى الناسِ وتغافلْ عن أذاهُمْ إن وُجِدْ، فإنَّ أعظمَ وأكثرَ أذىً يتلقَّاهُ الإنسانُ هوَ أذاهُ لنفسهِ لا أذى غيرهِ له.

ولدي، إنّْي سأسترسِلُ في بعضِ أمرٍ فَارْعِ انتباهكَ ولا تغفل:
تَذْكُرُ جيَّداً حينما كنتُ أؤدي حقَ المسلمِ للمسلمِ وأبوكَ أيضاً. نزورُ المريضَ ونصنعُ طعاماً لأهلِ الميتِ ونُواسيهم. نُشْارِكُ أهلَ الزفافِ فرحَتَهم ونَضْمِدُ جِراحَ أهلِ النوائب. ونسعى راجِلَيَنِ أو راكِبَيَنِ لبيتِ جارٍ أو قريبٍ أو صديقٍ لنقول "باركَ اللهُ لكم في الموهوبِ ورَزَقَكُم شُكْرَ الواهب". ولا يعنيني يا بُنيَّ في ذلكَ كُلِّهِ مواقفَ مُسْبقةً أو خلافاتٍ جانبية، كلُّ ما في الأمرِ أنَّ شِيَمْي وقِيَمْي التي تَعْرِفُها جيداً تدفعاني للمعروف.
 

المعروفُ يا بُنيَّ إنْ غادرَ أرضَ قومٍ حلَّ البَوَارُ بِها ومُحِقَتْ بَرَكَتُها وتَشَتَّتت ناسُها.. تَحْسَبُهُم جميعاً وقُلْوبُهُم شتَّى، يَسرِقُهم الجدلُ ويَحرِقُهم الحَسَدُ ويُعْذِّبُهُم سوءُ الظنِ وتُنْهِكَهُم بلادةُ الضميرِ فلا قيامَ لهم بعدَ ذلك! إنّْي قد مِتُّ يا بُنيَّ وما في قلبي مِثْقْالُ ذرةٍ من غَضَبٍ أو حَنَقٍ أو حِقْدٍ على أحد. وأنا الآن بينَ يدي ربٍ رحيم، لا أشعرُ بِغَبْنٍ قط على كائنٍ يمشي فوقَ الأرض.. تَقَدّْمتُ أنا ومن معيَ وستلحقونَ بنا يا منْ تمشونَ على الأرضِ في أوقاتكم المعلومة.
 

أَحْسِنْ إلى الناسِ وتغافلْ عن أذاهُمْ إن وُجِدْ، فإنَّ أعظمَ وأكثرَ أذىً يتلقَّاهُ الإنسانُ هوَ أذاهُ لنفسهِ لا أذى غيرهِ له! واعلم يا بُنيَّ أنَّ من أفضلِ البرِ بي في قبري أنْ تَزورَ أحبَّتي. وإنّْي عازمةٌ عليكَ ومؤتَمِنَتُكَ أمانةً فلا تُضْيِّعَها: أنَّ من عَرَفْتُهم في الحياةِ الدنيا كُلُّهم أحبابي بلا استثناء، فَزُرْ بعضَهُم وابتسمْ صادقاً وأحسنْ لبعضهمُ الآخر، واسْلُلْ سخيمةَ قَلبِكَ عليهم عامةً فتنامُ وما في قَلبِكَ على أحدٍ منهم ضغينة.
 

يا بُنيَّ احذرِ المبادئَ التي لا تخضعُ للتجربةِ ولا تقترِفُها الجوارح. واحذرْ أنْ تكونَ "لئيماً مُخادعاً فتكونَ حَسَنَ القولِ سيءَ الفعل، مُتَوَّسِعاً فيما ليس لك، ضَيِّقَاً فيما تملك".

حِذارَ يا بُنيَّ أنْ تَتَعَبَّدَ للهِ بِبُغْضِ أحدٍ لأجلي. فإنَّكَ إنْ فعلت، ما تعبَّدتَ للهِ على الحقيقة، وإنَّما تعبَّدتَ للشيطانِ الذي يئسَ أنْ يُعْبَدَ في جزيرةِ العربِ ولكنَّهُ لم ييأس في التحريشِ بينَهم! فَبِحَقِ اللهِ يا بُنيَّ ثُمَّ بِحَقْي عليكَ وعلى إخوتك، تساموا عن كُلِّ خطأٍ من أيٍّ كانَ وحاسبوا أنفُسَكم قبلَ غيركم.. ناموا قريري العينِ وأعلموا أنَّ من أعظمِ ما أدركتهُ الآنَ -في البرزخِ- أنْ لا شيءَ يستحق.
 

يا بُنيَّ احذرِ المبادئَ التي لا تخضعُ للتجربةِ ولا تقترِفُها الجوارح. عليكَ أنْ تَذْرُعَ ممراتِ الحياةِ تاركاً ورائكَ قتامةَ اليأسِ وخَوارَ العزيمة. استكملْ مشروعاتكَ الكُبرى ولا تعملْ وحيداً بل استعنْ باللهِ ثُمَّ بمن تثق، وما زالَ الخيرُ لم ينقطع. واحذرْ أنْ تكونَ "لئيماً مُخادعاً فتكونَ حَسَنَ القولِ سيءَ الفعل، مُتَوَّسِعاً فيما ليس لك، ضَيِّقَاً فيما تملك".
 

ما إنِ انتهتْ نجواها، حتى بدأتُ أشكوْ ولي أنينٌ يُسْمَع، فقلتُ يا أُمّْي يا حبيبتي، ماذا أفعل؟! قد عزمتُ أمري على الرُشْد، وصمّْمتُ الجداولَ وحدّْدتُ المهامَّ واستمعتُ لقولِ جوته "الأمورُ الأكثرُ أهميةً لا يجبُ أنْ تبقى تحتَ رحمةِ الأمورِ الأقلِ أهمية"، والحقُ أقولُ أنَّني بِتُّ أعلمُ ما الشخصُ الذي أودُّ أنْ أكون، لكنّْي الآنَ يا أُمُّي في أُتْونِ معركةٍ كبيرةٍ مع الصوارفِ الصغيرة. وهي العائقُ الذي يمنعُ الانطلاق، ويؤخرُّ صلاحَ الحالِ وبركةَ العمر!
 

ودَّعْتُها وغادرتُ قبرَها ورحيقُ همساتها يعبُرُني حزيناً لأنّْي افتقدتُها وأخشى ذهابَ أُمنياتِها أدراجَ الرياحِ لأنَّ ابْنَها ظلومٌ جهول!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.