شعار قسم مدونات

وللشوارع حكايات أيضاً..

A flooded street is pictured after heavy rains caused the closure of several main streets in Libya's capital Tripoli November 6, 2015. REUTERS/Hani Amara

ادخر مجموعة من الجيران قدراً من المال وقرروا تعبيد ورصف الطريق التي تطل عليها بيوتهم، إنها طريق فرعية لا أهمية استراتيجية كبرى لها ولا تقع على جانبها شركة كبرى أو مدرسة أو جامعة أو حتى مشروع زراعي يشغل المئات من السكان، إنها تربط بين مناطق سكنية في منطقة غير مزدحمة في ضواحي طرابلس، وبها بعض محال البقالة الصغيرة ودكان أو اثنان لتجميل العرائس، ومسجد يتوسط البيوت فحسب.

لن يؤدي رصف هذه الطريق وتعبيدها للسكان إلى تحقيق كل تلك الأهداف الكبرى التي تذكر في مناهج كليات الإدارة والهندسة والاقتصاد وغيرهم، ويكررها المشاركون في المؤتمرات والمنتديات الاقتصادية عن تنمية إفريقيا المهمشة المحرومة ودول العالم الثالث التي تستقبل المنح من الدول الكبرى، إذ لا يعي أغلب هؤلاء الجيران أن تعبيد الطرق أمام بيوتهم ورسم الخطوط البيضاء والرصيف ذا الحواف الصفراء وإعادة تصميم شبكة صرف المياه يمكن يكون نقلةً نوعية لحياتهم.
 

وجود الإسفلت جنباً إلى جنب مع القبلية والعصبية وملامح الريف، والتسلح وعدم احترام القوانين يؤكد أن ثمة تشابها هنا مع قصة الدجاجة والبيضة، لا نعلم من يأت بالآخر

كل همّهم التخلص من مستنقعات المياه التي تتجمع كل شتاء لتقلب موسم هطول المطر من موسم الرومانسية والأحلام إلى موسم التفكير في الشوارع التي ستغرق والبيوت التي لن يستطيع سكانها الخروج منها سوى بعبور برك المياه.

غايتهم الأولى أن ينقذوا السيارات التي تعطلت من دخول غدران المياه وتعلق في الوحل والصخور وكأنهم يسكنون غابة بعيدة عن العاصمة، أحلامهم وهم يجمعون المال لرصف الطريق -رغم موجة الغلاء المعيشي والأزمات الاقتصادية التي تمر بها البلاد- أن يروا سياراتهم تنزلق بسلاسة فوق الطريق الإسفلتية دون أن تعلو وتهبط فوق الحفر والأرضية التي جرفتها المياه، إطارات السيارات سوداء لامعة لا يعلق بها الوحل والتربة الرملية للبلاد، طريق لامعة غسلتها مياه المطر دون أن تبقى قطرة واحدة فوق الإسفلت.
 

لا تكون الحقيقة مطابقة للحلم، فالطرق والأزقة التي بدأ السكان يعبّدونها دون انتظار الحكومات والبلديات والميزانيات، ودون ربطها بنظام متكامل للمدينة لا تكون كالأزقة التي نراها في أوروبا ونتخيل أنفسنا نعيش فيها، والأمطار علمتنا من قبل أن الإسفلت لا يمنع الشوارع من التحول لبحيرات، فالمشكلة ليست في السطح بل بما في الأسفل.
 

يفكر أحد الجيران بعد تغيير الطريق في تحويل إحدى غرف بيته المطلة على الشارع لمشروع تجاري صغير يستهدف سكان الحي، فالطريق ستصير نشطة وسيمر منها سكان الحي والأحياء الاخرى وكل الذين يخشون على سياراتهم من الدخول في المستنقعات والحفر. سيبيع شيئاً يعجب المارين على عجل، ويمكنهُ استغلال الرصيف -الذي يخصص للمشاة- ليضع فوقه بضع صناديق من الخضروات والذرة صيفاُ.. لقد اشترى الشارع بما دفعه من مال لتعبيده، يقول مخاطباً نفسه.
 

يفكر آخر بأنه سيصير بإمكانه الوصول حتى الطريق الرئيسي مشيا على الأقدام دون أن يفكر في الأرضية غير المستوية والتراب.. وسيمارس الرياضة أمام بيته ولن يضطر لرش الماء أمام البيت لتهدئة الأرض الرملية، وسيصبح ثمن العقارات مرتفعاً. وآخر يتساءل مع نفسه: كم تحتاج هذه الطريق سنةً حتى تشتهر بين الناس كطريق معبده ليبدؤوا في وضعها ضمن خريطة مرورهم كل صباح؟ متى سيصبح مزدحماً؟ وكيف سيؤثر ازدحامه على السكان وحياتهم. وتفكر إحدى الأمهات من ذات الشارع "وأطفالي الذين كانوا يسيرون للمدرسة وحدهم بين الطرق البطيئة جداً، سيصير من الخطر عليهم قطع طريق ناعمة ومنزلقة كهذه وحدهم، لا شك سيمر بعض السائقين المتهورين، لا بد من مطبٍ واحد على الأقل لتنظيم السرعة".
 

تثبت التجارب أن تعبيد الطرق وتزويدها بالإنارة والبنية التحتية الكاملة من أوائل الأشياء التي تجلب المدنية والحضارة في بلد ما، لكن وجود الإسفلت جنباً إلى جنب مع القبلية والعصبية وملامح الريف، والتسلح وعدم احترام القوانين يؤكد أن ثمة تشابها هنا مع قصة الدجاجة والبيضة، لا نعلم من يأت بالآخر، مدنية البشر تؤدي لتعمير الطرق، أم أن التعمير هو من يرتقي بالبشر؟ ربما ليس علينا تحميل الإسفلت أكثر مما يستطيع.
 

الناس في طرابلس بدأوا يرصفون الأزقة والطرق بأموالهم، دليل قاطع على أنهم تحرروا من انتظار الحكومات والفاعلين لسير الأمور، وأقروا حاجتهم لأن يحققوا كل أحلامهم ولو بأنفسهم ومالهم

في ليبيا تقدر أرقام المنظمات الدولية وجود أكثر من 100 كيلو متر مربع من الطرق نحو 50 في المائة فقط منها مرصوفة ومعبدة، وهذه أنجزت قبل عقود وأغلبها يحتاج إلى ترميم واستكمال، إذ أن تهالكها يتسبب في مئات حوادث السيارات يومياً حتى أن إحصائيات أجنبية أكدت أن عدد من يلقون حتفهم في ليبيا بسبب حوادث السيارات أكثر من أولئك الذين تقتلهم الحرب رغم الصراعات العسكرية وعدم الاستقرار منذ سنوات.

عندما تكثر المشاكل والتعقيدات في بلاد ما، يصبح ترتيب الأولويات أصعب فأصعب، فمن يرى إصلاح الطريق أمراً لا علاقة له بالحرب ويجب إصلاحها ونفع الناس بها سيرد عليه آخر أن البشر أهم من الحجر "أوَنُعمّرُ طريقاً بمالنا وجيرانُنا في حي آخر من المدينة لا بيت لهم ولا مأوى؟".
 

يعتقد الناس أن أي تغيير سياسي سيأتي بالأفضل حتى لو كان ما لديهم ليس الأسوأ، هكذا ورد في كتاب الأمير لــ ميكيافيللي، الناس اليوم في طرابلس العاصمة بدأوا يرصفون الأزقة والطرق بأموالهم، صحيح أنها ليست طريقاً سريعا ولا رابطاً بين المدن والريف، لكنها خطوة ليست بالهينة، دليل قاطع على أنهم تحرروا من انتظار الحكومات والفاعلين والطرق التقليدية لسير الأمور، وأقروا حاجتهم لأن يحققوا كل أحلامهم ولو بأنفسهم ومالهم.. لقد اشتروا الطريق بمالهم وليس لأحد أن يتنبأ ماذا يعني امتلاكهم الطريق ولو كانت الكلمة اليوم مجازاً..
 

حال هؤلاء الجيران اليوم كالنازح الذي يغادر بيته على أمل العودة بعد أسبوع أو اثنين، فتجده بعد خمس سنوات وقد عمّر غرفة إضافية وأنشأ ركناً لبيع الفطائر في ركن من خيمته!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.