شعار قسم مدونات

هجرة.. إلى وطني

blogs - Arport
تدور بنا الأيام، وتتقاذفنا الأعوامُ و السنونْ، وتمضي الحياة تدور عجلاتُها بلا توقفٍ للأمامِ آخذةً معها عمرنا الذي مضى، ذكريات طفولة، طيشُ مراهقين ورعونة شباب.

تدور الأيام طاحنةً في طريقها أحلام طفولتنا، تطاردنا بلا كلل، نحاول الهروب أو الاختباء، لكن هيهات هيهات فلا ملاذ يؤوينا من عداد عمرنا المتهاوي.

مازلت أذكر تلك الأيام، أيام الصبا والأحلام، أيام الشتاء والدراسة و أيام انتظار عطلة الصيف المدرسية ومغامراتها.

هل كان هنالك معنى للدراسة، ولما تتابع عاما بعد عام بلا توقف، ما الهدف: الجامعة والأهلية لسوق العمل.

كبُر الصغار وقد عاصروا عهد ارتفاع الأسعار وتكتل الكوادر العاملة وضيق سوق العمل. كبر الصغار وكبرت همومهم وثقلت مسؤولياتهم من رغبة باستقلال ذاتي، زواج وحياة كريمة؛ حياة كريمة رأوها عبر التلفاز أو قرأوا عنها في الكتب. كبر الصغار وكبرت معهم طموحات طفولة بمستقبل مشرق قد خطط بعضهم لها منذ نعومة أظفاره.

يفقد الوطن بريقه في أعماقي. لم يعد لتلك الكلمة رنينها، خبى نورها، ما هو الوطن، لم أكن أعلم ذلك بعد عندما اتخذتُ قراري بالرحيل

كبر الصغار ليكونوا شبابا وتصطدم أحلامهم بحواجز اجتماعية، تخصصات دراسية لم يحبوها وتكاليف زواج أرجوازية وسوق عمل خامد يحرق عمرهم المتهاوي بلا عائد يتوازن وتكاليف المعيشة، وتغيب شمس الوطن ليفرد الغرب أجنحته كطائر عنقاء مُنير للأمل بعودة النور والراحة والسرور.

تدور عجلة الحياة وتتخبط أفكار الشباب وتتقلب توجهاتهم، هو الغرب ملاذنا، ضاع في ذلك دين كثير من الشباب، استثمرت بعض العقول لخدمة الغرب وهدرت طاقات آخرين في غسل الصحون. أما الوطن الجريح فلا أحد له، احتكره مسؤولون عجائز وتجار الأخلاق.

الهجرة كانت فكرة ما فتئت تنمو وتكبر ليشتد عودها في غيابات الروح الخفية، إلى أن حان وقت ثمرها لتهتز الروح أملاً بالرحيل.

– قلت له يومها حدثني عن الوطن؟
– عن أي وطنٍ تتحدث؟

هل هي تلك الأرض التي ولدت عليها، أم هو ذلك البيت الذي ترعرعت فيه؟
قل لي هل هو مكان عملك المستبد، أم هي أيام الطفولة وغياب المسؤولية أم قد يكون هي تلك اللحظات الجميله قضيتها بين أهلك و أحبائك وأصدقاء عمرك، تمر الايام ويفقد الوطن بريقه في أعماقي.

لم يعد لتلك الكلمة رنينها، خبى نورها، ما هو الوطن، لم أكن أعلم ذلك بعد عندما اتخذتُ قراري بالرحيل، الهجرة طلبا للرزق، طلباً لحياةٍ كريمة لي ولأبنائي الذين لم أحظ بهم؛ لأني لم أتزوج بعد.

حيثما ذهب رزقك ذهبت، قد تمر سنواتك الأولى بولع الحنين ويتحرقُ قلبك شوقا للأرض وهوائها، لأهلك وأصدقائك، ثم يرفرُ طائر الحنون مبتعدا وتتلبد الغيوم في أعالي السماء ليهطل المطر على قلبك المشتعل فتخبو ناره وتهب رياح التعود لتزهر في قلبك بتلات الحياة الجديدة.

أصبح حديثك مع أهلك وأصدقائك عبر الهاتف روتينيا، لم تعد كلماتهم تشدك كسابق عهدها، قد تمر بك أحيانا نسائم الحنين لتهز كيانك شوقاً لكنك وكلما طال مكوثك خبت جمراتك وصعب إشعالها وتمر الأيام وتدور عجلة الحياة.

هاجرت آخذاً وطني معي وتركتكم هناك، تركت الذئاب تائهة في صحراء الظلم، هاجرت وهاجر معي وطني

هل هاجرت، غادرتُ أهلي، تركتهم ورائي وأصدقاء طفولتي وتلك الشجرة في حديقة بيتنا القديم. طويت صفحاتهم في كتاب عمري لتتلاشى ذكراها يوما بعد يوم.

تساءلت مرارا، هل أضطر لذلك يوماً؟
لا أعلم، لكن قل لي ما الوطن؟

الوطن هو حيث السكينة، حيث الحب، إنه ذلك الهواء النقي الذي استنشقته عند ولادتك، عبرات أمك وكد أبوك، حوار مع إخوتك وأصدقائك.

الوطن هو أرضك التي لن تنساها، هو بيتك الذي ترعرعت فيه، هو مكان عملك وزملاء وقتك وتدور الأيام.

تدور الأيام لتدرك أنك حينما رحلت رحل الوطن معك. كان ومازال ملازمك، عشش في غيابات روحك، فكيف تنساه.

نعم هاجرت، هاجرت آخذاً وطني معي وتركتكم هناك، تركت الذئاب تائهة في صحراء الظلم، تركتهم هناك يطاردون عبيد الخوف والذل، هاجرت وهاجر معي وطني، لن أنساكم ما بقيتُ حيا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.