شعار قسم مدونات

حياةُ الشُهداء

bloogs-حياة الشهداء

على حافةِ عالمٍ آخر تبدأ لحظةُ التّسامي فوق كل غرائز الدُنيا حيثُ الإشراقُ والنور وسط ظلام المعاصي والشهوات، تبدأ تلك اللحظة بإنسانٍ تجسّدت فيه كل معاني الصدق والوفاء فقدم كل ما يملك -حتى نفسه- لله ﷻ، هو العبد في أرقى وأبهى صور العبودية هو المُحب الصادق في حُبه فاستحق هذا الإنسان أن يكون مسجودَ الملائكةِ يومَ خُلقنا، جاء أجله يوم موته فأبى الله إلا أن يختم لهُ بتاج الشهادة.
 

هم كثيرون بيننا لا نختلف عنهم في شيء سوى أنّهم يمضون في الدُنيا باحثين عن الله لا عن الجنّة لأنهم يعلمون أنّه حيث ما يوجد الله ﷻ توجد الجنّة، حتى إنهم لا يكترثون قليلاً للجنّه لأن كل ما يريدونه هو لقاءُ اللهِ ﷻ الذي يُشفي ويُزيل ألمَ الدُنيا من قلوبهم -إن عبداً خيرهُ الله بين الدُنيا والأخرة فاختار لقاء الله-، هم يسيرون إلي الله في كل حين يعيشون لله وبالله لا يضِرُهم شيء، طيفُهم مضيء وطلتهم لا تأتي إلا بخيرٍ ونقاء، بالطبع لا تكفي السطور للوصفِ عنهم أو عن حياتهم فهم أعظم من أن يصفهم أُناسٌ مِثلُنا.
 

هؤلاء أحبوا لقاء الله فأحبّ اللهُ لقاءهم، هؤلاء الشُهداء تراهم واقفين كلٌ على نَجمتهِ سُعداء بما قدموا أرواحهُم في حواصل طير خضرٍ في قناديلَ مُعلقةٌ بالعرش تسرح في الجنةِ حيثُ شاءت

كان عبد الله بن حرام حين يقول: رأيتُ في النوم قبل أُحد كأنّي رأيت مبشر بن عبد مُنذر -وهو من شهداء بدر- يقول لي: أنت قادمٌ علينا في هذه الأيام، فقلت: وأين أنت؟!، قال: في الجنّة نسرح فيها كيف نشاء، قلت: ألم تُقتل يوم بدر؟ قال: بلى، ثُم أحييت. فقص عبد الله بن حرام ما رأى علي الرسول ﷺ، فقال ﷺ "هذه الشهادة يا أبا جابر".
 

هؤلاء أحبوا لقاء الله فأحبّ اللهُ لقاءهم هؤلاء الشُهداء تراهم واقفين كلٌ على نَجمتهِ سُعداء بما قدموا أرواحهُم في حواصل طير خضرٍ في قناديلَ مُعلقةٌ بالعرش تسرح في الجنةِ حيثُ شاءت يوضع على رؤوسهم تاجَ الوقار الياقوتة مِنه خيرٌ من الدُنيا وما فيها، ثُم يطّلع الله عليهم اطلاعا فيقول ﷻ هل تشتهون شيئاً؟! فيقولون: يا رب ما نشتهي ونحن نسرح في الجنةِ حيثُ نشاء، فيسألهم مرةً ثانيه وثالثه فيعلمون أنهم لن يُتركوا فيقولون: يا رب ردنا ردّاً إلى الدنيا مرةً أخرى فنقتلُ في سبيلك. ومِن عَظمةِ الشهادة وعِظمِ ثوابها كان النبي ﷺ يقول -وهو يتمنى الشهادة- "وددت لو أنّي أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا، لِما يرى من مكانةِ الشهداء.
 

هؤلاء يا عزيزي لا يجدون من ألمِ القتل إلا كما يجدُ أحدُنا مسّ القرصة، ومِن هنا تبدأ اللحظة التي تَحكي بِداية وُلوجِهم باب البرزخية بداية مُفارقتهم الدنيوية إلى الأخروية، نهاية كونهم مُسلمين أحياء في الدُنيا إلى بداية حياة الشهادة الأبدية، لحظاتٌ عجيبة في قاموس الإنسان، لحظاتٌ لا يُدركها أيُّ إنسان. إنّها لحظات لا يُمطي صهوتُها إلا أهلُ الإيمان لحظاتٌ تعجزُ عن وصفها الحروف والكلِمات لحظاتٌ لن تمُر إلا على المُحبين المُجاهدين الصادقين بحق.
 

حين أفكر أن الشهداء لم يجعلوا الشهادة حُلما يتمنون أن يحققوه مُستقبلاً، بل جعلوه واقعاً وواجبٌ عليهم التمهيد والاستعداد للوصولِ إليه تصغرُ الدنيا في قلبي قبل عقلي.

ومِن هنا اشتممتُ رائحةَ الموت بدت لي كأنها رائحةُ الجنّة ممزوجة برائحةِ اللقاء -ربما.. حُمِلت روحي عالياً مع البقيّة- ومع نسمة الهواءِ الباردة والطقسُ المتقلب والتي انتُزِعت فيها دموعي التي كانت تسيل بغزارةٍ مِن شدةِ شوقي لهذا اليوم -وفي قرارةِ نفسي يا رب اجعلها.. لم أُكملها، حتى أنها تبدلت تماماً وأصبحت يا مرحباً بلقاءِ خالقي ويا لِلهفتي وشوقي لذاك اللقاء الذي لَطالما حلُمت بِه كثيراً -وابتسمت.

لا أحد حولي ولا أحد يرى ما أراه فقط الصمتُ طاغٍ كالعادة، أرعبني ذلك السكون من حولي فمن هناك يُشاركني فرحتي تلك؟! ذلك الصمتُ سيحِلُ يوماً علينا جميعاً ليُطبق على أرواحنا ويمنعنا من الحركة ومن النُطق بأي حرف حينها "مشهدٌ مؤلم لِمن يُشاهد ولِمن مازال على قيد الحياة بالأصح" مألوفٌ لهم مصحوبٌ بِغصةٍ في الحلق تُؤلِمُهم بعض الشيء ربما مِن شدةِ هول الموقف وخوفهم لم يعودوا يشعرون بشيء -بالتأكيد لو نظروا لِما أنظر لتغير حالُهم تماماً- الشمسُ تغرُب، الطيور تلف المئذنة تحليقاً ثم ينفجر جميعَ مَن حولي باكين، لا أستطيع أن أقول لهم مالي أراكُم تبكون وأنتم لا ترون ما أراه! فقد فقدتُ الشعور بِلساني وقتها لأشيء يُذكر سِوى اللاوعي ودمعاتٌ تسيلُ بانسيابية على الوجه مِن شدةِ الفرح وقلبٌ يُردد الشهادة في داخله ويتذكر قول الصحابي الجَليل جعفر بن أبي طالب حين قال: يَا حَبَّذَا الْجَنَّةُ وَاقْتِرَابُهَا *** طَيِّبَةٌ بَارِدَةٌ شَرَابُهَا.
 

علّ بُكائي يومها ساعدني على استنشاق آخر نفحةِ هواء حين أموت -أو بالأحرى حين يجعلني اللهُ ﷻ مِن الأحياء الفرحين بما آتاهُم إن شاء جَلّ وعلا- وأن أودِع الباكين حولي بابتسامه داعياً أن يكونوا مِن اللاحِقين بي. تِلك حياةٌ لا نهاية لها فمِن هُنا يبدأ النَعيمُ ويستمرُ إلى ما لا نهاية.. حين أفكر أنهم لم يجعلوا الشهادة حُلما يتمنون أن يحققوه مُستقبلاً، بل جعلوه واقعاً وواجبٌ عليهم التمهيد والاستعداد للوصولِ إليه تصغرُ الدنيا في قلبي قبل عقلي، وأيضاً عندما أغوص في بحر القراءة عن قصص الشهداء مِن الصحابة وممن نحسبهم شهداء في عصرنا ذاك تتوقف الحياة عن النبض تماماً، فهم رَبِحوا البيع -وكان ذلك أعظمُ بيع- فما بالك بِنا نحن؟! تُرى هل تكون مِثلَهُم يوماً أم سنرحلُ كما أتينا؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.