شعار قسم مدونات

أن تعمل بحثًا عن المعنى

blogs - human
أتذكر الشعور الغريب الذي غمرني أول مرة وأنا أمر -بمدركاتٍ غير مدربة جيدا، ولم تُصقل بعد-، بالآية الكريمة
"أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ" الزخرف-٣٢.
كان مردّ ذلك الشعور الغريب لتساؤلي: لماذا يَسْخَرُ الناس من بعضهم؟
 

بيدَ أن المقصود هو التسخير الذي فهمته لاحقا، ففي القاموس "سخَرَتِ السفينة، إذا أَطاعت وجَرَت، وطابت لها الريح"، واطمأن قلبي منذ ذلك الحين لهذا المعنى، فأعمال الناس تجري منافعها للناس، والبشر من حيث أنهم مُسَخّرون لبعضهم يكونون أسبابًا متداولة فيما بينهم للعيش، يصدق هذا في زمن ما قبل وما بعد الدولة الحديثة، وإنْ بمقاربات مختلفة.
 

لا يمكن الحديث عن المعنى الذي يوفره العمل، بدون الإشارة للإيمان بالله، وما يوفره الدين من معانٍ عظيمة تعين الإنسان على تحمل أعباء الحياة.

أن تعمل يعني -بوجه ما- أن تبحث عن معنى لحياتك. هذه البديهة تحرك الملايين من البشر نحو أعمالهم كل يوم، نحو المكاتب والعيادات والمصانع والمزارع والمدارس والشوارع. هناك ما يشبه الاتفاق غير المكتوب بين البشر في أن الحاصل النهائي لأعمالهم المتباينة يعود بالنفع على الجميع، فيما لو أدى كل عمله كما ينبغي.
 

والناس يتفاوتون في إدراك معنى أعمالهم، وحياتهم بالتالي، وشعورهم بالقيمة الفردية والمسؤولية نحو الذات والآخرين لا يتماثل، لكن أصحاب الحس السليم والشعور الحاضر يتفقون على عدم إطاقة عمل بدون حد أدنى من الشعور بالمعنى، مع استثناء من تجبره ظروف قاهرة على عمل ما، أو من يرى الوجود عبثًا لا طائل من التفتيش عن معنى فيه، فيركب أي مركب في بحر الحياة بلا وجهة وبلا أدنى مبالاة، وبالنسبة لي يصعب علي تخيل نفسي في عمل لا أستحضر فيه المعنى كاملا.
 

في "مذكرات من البيت الميت" يذكر دوستويفسكي أن أشدّ ما كان يلاقيه السجناء من العنت بعد التصالح مع فكرة السجن والأشغال الشاقة هو تكليفهم بمهامٍ عبثية مبتورة الجدوى وخالية من المعنى، فالسجين لا يرى بأسا في هدمِ مبنى قديم وبناءِ آخر مكانه، أو في شقّ الأرض وبذرها، أو في طلاء الجدران البالية، لكنه سيفكر حتمًا بالانتحار لو كلفته بنقل كومة تراب من مكان إلى آخر وإعادتها مرة أخرى، أو تفريغ برميل مياه بملعقة تحت وطأة الوقت الطويل الممتد الذي لا يرحم.
 

والتكليف بمثل هذه العقوبات يُراد منه كسر الإرادة، ففي فيلم "The Last Castle" يكلّف جيمس غاندولفيني ؛ مأمورُ السجن الفاسد روبرت ريدفورد ؛ الجنرال السابق في البحرية الأمريكية بنقل كومة أحجارمن مكان إلى آخر. لكن ما كان يُراد منه أن يكون عذابا عبثيا يقصم ظهر الجنرال ويكسر إرادته فحسب، يصبح أيقونة لتحدي السلطة الفاسدة، فيعود للجنرال عنفوانه العسكري ويلتفّ حوله السجناء وكلهم جنود سابقونمتناسين زلّات الماضي، مستعيدين مواثيق الشرف العسكري القديمة، ثم تقود سلسلة من الأحداث المثيرة إلى إسقاط العقيد الفاسد وجرّه بالأصفاد.
 

في ضوء هذا، يمكن فهم المبررات التي قد تحمل الإنسان على تغيير مسار حياته، ونقاطَ التحول في حياة الكثيرين قد تثير استغرابا عند من حولهم وأسئلة كثيرة لديهم، لأن المكوث في منطقة راحة ما، وهي المنطقة التي تدور فيها عجلة الأشياء برتابة وبلا شغف، وبلا معنى أحيانا، يغري دائما بالكسل.
 

الإنسان باحث عن المعنى أبدا، لا يكف عن التلفت والتطلع والبحث عنه، سيّان قلّ ذلك المعنى أم جلّ.

ولا يمكن الحديث عن المعنى الذي يوفره العمل، بدون الإشارة للإيمان بالله، وما يوفره الدين من معانٍ عظيمة تعين الإنسان على تحمل أعباء الحياة، والاضطلاع بمسؤوليته الكونية، والاطمئنان لتحقق العدالة في اليوم الآخر. والتسليم لله بمآلات الأمور يحمي من الانزلاق في وديان العبثية والعدمية السحيقة، بعد أن خاب أمل الإنسان في إيجاد إجابات للتساؤلات الإنسانية الكبرى، في حين يمنح التسليم لله شعورا بالأمن لا يمكن تعويضه بأي شيء آخر، بحسب تعبير علي عزت بيجوفيتش.
 

وقد أشار بيجوفيتش إلى الوجودية في شذرات من كتابه "هروبي إلى الحرية"، في أنها محاولة بشرية لإيجاد المعنى مثل الدين، وبحث دائب عن إجابات للأسئلة الكلية في حدود كل إنسان وممكناته، وربما كان يشير في شذراته تلك إلى وجودية هايدغر، حيث تبدأ وجودية الإنسان بالقلق تجاه مصيره، وبالتالي البحث عن ماهيّته وجدواه.
 

لا أقول إن المقارنةَ بين المعنى الذي يوفره العمل للإنسان وذلك الذي يوفره الدين صالحةٌ من حيث القيمة، إنما من حيث المبدأ، في أن الإنسان باحث عن المعنى أبدا، لا يكف عن التلفت والتطلع والبحث عنه، سيّان قلّ ذلك المعنى أم جلّ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.