شعار قسم مدونات

ألواح ذكية تنتهك البراءة والخصوصية

blogs-smart phones

طفلتي الصغيرة احتفلنا قبل أسابيع عدة بفطامها بالقوة الجبرية من الرضاعة الصناعية، لكن بالأمس عدنا لنجد أنفسنا أمام أزمة فطام جديدة من نوع مختلف قد تحتاج منا لمضاعفة الجهد.

ففي غفلة مني وقع في يدها جهاز الجوال الذي لم يكن في الخيال أنه سوف يستميلها بمحتوىاته، وأمام حاله الدهشة والحيرة ذهبت أقلب في عقلي عن طريقة لتخليص هذا الجوال من بين يديها دون إثارة غضبها أو الصراخ في وجهي.

 الآباء خائفون على أبنائهم الصغار بعد ظهور دراسات تحذريرية لعلماء من تأثير الألواح الذكية السلبي على الأطفال

بحثت عن أفضل الطرق للتعامل معها لكن لا فائدة أمام إصرارها، ولا جدوى من إقناعها بأنه جوال خاص بالكبار، وستفجر رأسي بصراخها العالي إذا لم ألبي رغبتها والقبول بالواقع الجديد، لهذا أنا أمام خيارين إما أن أفكر جديا في شراء جهاز أخر وأترك لها جوالي، أو أعيد لها الرضاعة مرة أخرى وهو ما سوف يدخلني في شجار آخر مع أمها.

ظاهرة الطفولة والألواح الذكية تكاد تكون واقعا مسلما به في حاضرنا بعد ان استكانت له الأسر من ضعف الحلول وتلافي سوء الأثر على السلوك، دون معرفة سر اهتمام الطفل وشغفه بهذا الجهاز في سن مبكرة إذ أصبح من الوسائل الترفيهية الناجعة في إسعاده، فيما خلق عند الآباء والأمهات حالة من القلق، خاصة كلما مضى الطفل يقضي جل يومه يعبث فيها و يتعلق بها، فتراه متمرسا قد أبحر في عوالمه كسباح ماهر يستكشف دهاليزه في ذكاء، وتارة لاعبا بارعا.

في الآونة الأخيرة بدا على الآباء الفزع والخوف على أبنائهم الصغار من ظهور دراسات العلماء التحذيرية التي أجريت على بعض الأطفال، والتي ركزت على سوء استخدام هذه الأجهزة بجميع أنواعها، وتأثيرها المباشر على المخ ونشاطه ما قد يسبب قصور في النمو الذهني والانزواء بعيدا عن محيطة الاجتماعي.

لكن هذه الأجهزة الإلكترونية قد تعجز النفوس في مقاومة سحرها العجيب الذي أصاب الكبير و الصغير على حد سواء ذكر كان أو أنثى مما أدخل أفراد الأسرة في حالة شتات للفكر، وإهدار للمال و الوقت لتتعمق الأزمة كثيرا داخل المجتمع بأكمله، كلما زاد تعلقهم بتنوع البرامج وتعدد التطبيقات لتتوسع دائرة الإدمان، وتصبح لدينا نماذج حقيقية من قلب المجتمع تعيش حالات التناقض في حياتها، و تعاني من الفتور في العلاقات العائلية، لكن سر اهتمام الطفل و شغفه بالجهاز الذكي في سن مبكرة، هو المثير الذي يدعو للاستغراب والتأمل.

هناك هوس آخر أشد غرابة عند البعض يتمثل في طريقة شراء الجهاز الجديد، تراهم في حالة سباق و تسابق على الوقوف في طوابير طويلة أمام المتاجر، منهم من يفترش الرصيف، ينام أيام وليالي أمام المتجر منتظرا موعد نزوله للأسواق، فيقاتل من أجله ليكون الفائز بالجهاز الأول قبل الجميع، ولا يعرف ما هي القيمة الاجتماعية التي سوف يمنحه إياها هذا الجهاز عندما يحصل عليه أولا، و هو يدرك أنه سيكون في متناول الجميع خلال اليوم أو بعد أيام أو أسابيع أو أشهر..!

لقد دخل هذا الاختراع الذكي القلوب واستمال العقول، حتى أصبح يجاذب الجيوب في ثمنه أغلب فئات المجتمع دون استثناء، وبالذات من هم يشكون شظف العيش وغلاء الأسعار، تجدهم يزاحمون الأغنياء على اقتنائه..

وكلما تسابقت شركات التطبيقات في تفعيل خاصية الفيديو في برامجها، كلما توجست المجتمعات العربية من تزايد المهووسين بحب الشهرة، ما قد يفرز جيلا جديدا أكثر إدمانا بالأضواء والفلاشات، فانحرفت المفاهيم وألغيت الصورة النمطية كجهاز اتصال وتواصل إلى جهاز إفراغ و إشباع للغرائز.

لقد اقترب منا العالم كثيرا واقتربنا منه أكثر من ذي قبل بفضل تكنولوجيا المعلوماتية التي حققت للبشر نقلة نوعية،اجتماعية

وتطور الحال حتى دخلنا مرحلة العقم في المشاعر والتبلد في الأحاسيس، فجاءت الصور والمشاهد غير مألوفة، ضاربه بالقيم والأخلاق الحميدة عرض الحائط، فالمرأة لم يعد لها خصوصية أو حصانه في عالم المعلوماتية، فأصبح التحرش بها في الأماكن العامة مشهد معتاد، و تعددت هنا أشكال المشاهد المسجلة حتى غدت تنافس شهرة المشاهير في المجالات الأخرى، لكنها تبقى ممارسات شاذة تزعج الذوق العام، هي حالات اقرب لعقوبة القانون وللمعالجة الصحية النفسية..

لم يعد  الإنسان يأمن في حياته من اللوح السحري ولا على خصوصياته بعد ان اخترق جدران المنازل، وأخضع البعض لابتزاز أصحاب النفوس المريضة بل لم يعد يشكل خطرا على صحة أطفالنا وصحتنا فحسب بل وصل خطره إلى البيئة وتلوثها من جراء إتلافه، وكذلك افتعاله للحرائق و حوادث السيارات القاتلة على الطرقات..

لقد اقترب منا العالم كثيرا، و اقتربنا منه أكثر من ذي قبل بفضل تكنولوجيا المعلوماتية التي حققت للبشر نقلة نوعية،اجتماعية ومعرفية، كان في الزمن الماضي القريب مجرد خيال يصعب تحقيقه حتى أصبحنا الآن نعيشه واقعا ملموسا.

وقد حان الوقت للحكومات العربية أيضا في البدء في تفعيل القوانين الرادعة التي تضع الحد للفوضى الأخلاقية داخل المجتمع الإسلامي، ومن ثم كبح جماح هؤلاء المصابين بأمراض الشهرة ووضع الخطوط الحمراء لهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.