شعار قسم مدونات

سلام إليكِ حبيبتي

blogs- sister

يقول الكاتب مصطفى صادق الرافعي "إنّ من الناس من يختارهم الله؛ فيكونون قمح هذه الإنسانيّة، ينبتون ويحصدون، يعجنون ويخبزون، ليكونوا غذاء الإنسانيّة في بعض فضائلها ".
 

في حياة كل منا شخص يختاره الله لنا ليكون عوناً وسند ورحمة، يحمل على عاتقه همومنا، ويشاركنا خُطى أحلامنا، يأخذ بأيدينا المُرتعشة، ويُربت على أكتافنا المنهكة، ويُحرر عبراتنا الحبيسة وحروفنا اليتيمة، ويربط على جروح أرواحنا فتلتئم، ويحتضن أوجاع قلوبنا فتطيب، ويزيل الشوك عن صدورنا المكلومة فتنشرح، هؤلاء الذين يختصهم الله برحمة لا تنضب ينابيعها يوماً، وحب لا يجف شريان عطاءه.
 

ومن هؤلاء إخوتنا الذين يرزقنا الله بهم نوراً ودليلاً، وسكناً ووطن لم تلفظنا ضلوعه يوماً، وفي سطور هذه المدونة أحببت أن أهدي كلماتي وامتناني إلى من أفنت عمرها من أجلي، أكتب إلى أختي، وضميري وساعدي، وحمايتي التي يحيطني بها الله عز وجل أينما كنت، أكتب إلى نور القلب، وتوأم الروح، أمي التي لم تلدني، ولكنها أحبتني كابنة من صُلب رحِمها، وغرست بداخلي حلماً وحياة، وسط تلك الحروب التي كنت أخوضها يوماً بعد يوم مع ضعف نفسي ووسواسها تارة، ومع طعنات الغدر والخِذلان تارة أخرى، لتتقاذفني صرخات عقلي المتلاطمة بين أمواج اللوم والندم، والحسرة واليأس، حتى أصبح الحلم لي حلماً في حد ذاته، والأمل مجرد سراباً في أخر النفق المُعتم الطويل، فتغادرني أحلامي التي كانت تشتعل وتتوهج سريعاً، ولكنها سُرعان ما كانت تنطفئ كأعواد الثقاب البالية.
 

لم تتركني أعاني الوحدة والتيه يوماً، دائماً وأبدا تُمسك بيدي فتخرجني من ذلك البئر العميق المُوحِش الذي صنعته لنفسي يوماً، لم تفلت يدي لحظة مهما طال الطريق وتعرجت بيَ السبل

ووسط كل هذا الصراع، أجدها دائماً هنا وهناك بجانبي مهما طالت بيننا المسافات، أو باعدت بيننا الحدود، لأستشعر لمسة يديها الحانية تُربت على كَتِفي، وتأخذ بيدي كلما استوحشت بي أنياب اليأس ودروب الاستسلام، لأجدها دائماً تَهُز جذوع الأمل بكل ما أتاها الله عز وجل من قوة وجلد، لتسقط حولي رُطب هنية، تُشفىَ بها أسقامي وتَطيبُ بها جروحي الغائرة، فتملأ خِواء القلب والروح من ينابيع حبها وعطائها، فتستقر خُطاي المُترنِحة على طريق الحياة، وأرصفة الأماني والأحلام.
 

كَمِشكاةٍ أستمد منها نوراً سرمدياً تستكين إليه روحي، وتتطهر به أعماقي من شوائب الحياة، وغُصة الخوف من المجهول، تستمع لكل همومي باهتمام شديد، حتى تلك الأمور التافهة التي تؤرقني، تُنصِت إليها دون كللٍ أو ملل، وتحمل على أكتافها ألامي، وتغفر زلاتي، وتحتوي ثورات غضبي وانفعالي، وتقاوم معي اعوجاج روحي عن استقامة الدربُ والحلم.
 

لم تتركني أعاني الوحدة والتيه يوماً، دائماً وأبدا تُمسك بيدي فتخرجني من ذلك البئر العميق المُوحِش الذي صنعته لنفسي يوماً، لم تفلت يدي لحظة مهما طال الطريق وتعرجت بيَ السبل، تجُر أحلامي وسعادتي بحبالٍ من نور، وتُبِثُ ثقة العالم في قلبي المُظلم فَيُبصِر، وعيني الشاردة فتهتدي.
 

أختي حبيبتي يا أول فرحة بعد عمرٍ من التعب، وأجمل صور رزق رب العالمين لأبي وأمي ولنا، جئتِ إلى الدنيا لتنيري الكون، كبياض الثلج البهي، لِيُكبِر أبي رحمه الله في أذنيكِ الصغيرة، ولِتحمِلك أمي بين ذراعيها، وتقبل رأسك ووجنتيكِ الورديتان، كما كانوا يحكوا لنا دائماً عن فرحة مجيئك.
 

لتكوني بفضل من الله سبباً دائماً في فرحتهم وافتخارهم، بطهر ثنايا قلبك الصغير، وصفاء روحك، وحصولك على المراكز الأولى بين صفوف المتفوقين في كل عام، ليتوج كل هذا حفلات الإذاعة المدرسية والتي كان يدوي في سمائها خشوع صوتك الحنون في ترتيل آيات الذكر الحكيم، والذي يُبكي الجميع بمجرد الاستماع إليه بروحانية أوتارِه التي تنبض بحب الله عز وجل.
 

أتذكر حبيبتي دائماً عندما كنت ألعب بأقلامك وأخبئها، لكي لا تكملي مذاكرتك وتنتبهي لي وتشاركيني اللعب، أذكر عندما كنت أتشبث بكي، وأصرخ بالبكاء كلما ابتعدتي عني، وتلك الحكايات التي كنتِ تقصيها لي قبل النوم لأخبرك قائله، هل أنا تلك الأميرة؟، هل تقصدينني أنا؟ فتقولين لي لا تكوني مشاغبة حتى تكوني مثل تلك الأميرة، وأذكر عندما غرست إصبعي في زجاجة "الميكروكروم"، كخدعة بريئة مني لتقبلي اعتذاري عندما أغضبتك وجئت إليكِ أخبرك بأنني جرحت يدي، لتتأملي إصبعي بلهفة الأم وتضحكين وأنتي تخبريني بأنكِ اكتشفتِ الأمر، وتضميني إلى صدرك الحنون.
 

ثم تحملك لمسئولية دراستي بكل حبٍ وإيثار، واهتمامك الدائم بأدائي لفروض الواجبات الدراسية على أكمل وجه، إلى فرحة قلوبنا بعقد قرانك وتأثري الكبير بسفركِ إلى الخارج، لأشعر بعدها بخواء لا يملأه سوى الاستماع إلى نبرة صوتك الحنون عبر الهاتف، لتحتويني بمزيد من الحب والنصح والدعاء، في كل وقت أحتاجكِ فيه، أجد رنة الهاتف واسمكِ الذي يقذف لمعة الفرح في عيني، ليُعانق قلبي المتعب، فيهدأ من خيفته وغربته، وابتهالات دعائك لي حتى أستشعر أنها بشرى من الله بانفراج الهم عن قلبي، وبأن الخير آتٍ و أنه قريب.
 

سلام إلى قلبك الذي يشعر بأدمُعي الخفية، سلاماً إلى جدران روحك التي أستنِدُ عليها، سلاماً إلى يديكِ التي صنعت من فُتات الأمل خبزاً، ونسجت من أحلامي المهترئة حقيقة.

سلام إلى قلبك الذي يبكي فراق أبي الحبيب رفيق الروح وقُرة العين دون توقف، أعلم أنه لكي روحاً وسكن ووطن، ولكن حبيبتي إن رحل بجسده، فانه لم يرحل يوماً بروحه ، فنحن نراه فيكي، فأنتي تحملين بشاشة ملامحه، وتقاسيم وجهه الحنون، وتحتضنين صدى نبضات قلبه الحنون، وفيض مشاعره بين أركان حجرة قلبك الأربعة، ونحن له على العهد والوعد باقون، في ظل حفيف أوراقه، وهيبة أقلامه، ورشاقة خط يده، ونصائحه وتضحياته من أجل راحتنا وسعادتنا، وألحان ضحكاته، وعفوية حديثه، لنستكمل أحلامه المبتورة، ولِنخرج حروفه وعبير كلماته من أرفف الحياة وأدراجها إلى النور.
 

فسلام إليكِ حبيبتي، يا بنان الروح، وزهرة الفؤاد، وابتسامات الطفولة الوردية، سلام إليكِ يا لؤلؤة الإنجي التي ينبتها الله عز وجل، كالحجر الكريم الذي يستوطن أعماق الخلجان والبحار والمحيطات، فيشع نوراً ساطعاً وجمالاً يعكس إبداع الخالق سبحانه وتعالى، سلام إلى قلبك الذي يشعر بأدمُعي الخفية، وبأنين قلبي المكتوم دون أن أتحدث، سلاماً إلى جدران روحك التي أستنِدُ عليها، سلاماً إلى يديكِ التي صنعت من فُتات الأمل خبزاً، ونسجت من أحلامي المهترئة حقيقة.
 

وسلام إلى كل الطيبين الذين يحترقون حباً من أجل أحبابهم، سلام إلى أنصافنا وظلالنا، الذين لا تجف عروق عطائهم، ويتفانون من أجل أن نبقى سعداء، الذين يُحيُون أحلامنا المُتعبة، فيخبروننا بأن الأحلام لم تُخلق يوماً للجبناء والمتخاذلين في حق أنفسهم، الذين يخرجوننا من أوقات التوقف المُهلِك، كتلك النبتة الخضراء التي تخرج من جوف الأقفال الصدأه، والتي تدب جذورها بين حطام الحياة، فكما قالها الرومي سالفاً "سلاماً على الطيبين الذين إذا رأوا جدار روحك يريد أن ينقض أقاموه".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.